الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلأَرْضِ وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَٱقْصُصِ ٱلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }

وهنا أمران اثنان، الرفعة: وهو العلو والتسامي، ويأتي بعدها الأمر الثاني وهو الإخلاد إلى الأرض أي إلى التسفل، والفعلان منسوبان لفاعلين مختلفين. { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ } [الأعراف: 176]، والفعل رفع هنا مسند لله. ولكنه اختار أن يخلد في الأرض. وجاء الأمر كذلك لأن الرفعة من المعقول أن تنسب لله. لكن التسفل لا يصح أن يُنسب لله، وكان كل فعل هو بأمر صاحب الكون. وربنا هنا يرفع من يسير على المنهج، وحين يقول الحق تبارك وتعالى { وَلَوْ شِئْنَا } [الأعراف: 176] أي أنها مشيئتنا. فلو أردنا أن نرفعه كانت المشيئة صالحة، لكن هذا الأمر ينقض الاختيار، والحق يريد أن يُبقَي للإنسان الاختيار، فإن اختار الصواب فأهلا به وجزاؤه الجنة، وإن أراد الضلال فلسوف يَلْقى العذاب الحق، ولمزيد من الاعتبار بقصص القرآن اقرأ معي قصة العبد الصالح مع موسى عليه السلام:فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً * قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } [الكهف: 65-66]. ورغم أن موسى رسول من عند الله إلا أنه لم يتأبّ على أن عبداً من عباد الله تقرب إلى الله فاتبعه موسى ليقول له:هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } [الكهف: 66]. وفي هذا تأكيد على رغبة موسى أن يستزيد بالعلم ممن أعطاه الله العلم. وجاء القرآن بهذه القصة ليعلمنا أدب التعلم. وماذا قال العبد الصالح؟ لقد عذر موسى وقال:قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } [الكهف: 67-68]. أي أنك يا موسى لن تصبر لا لنقص فيك، بل لأنك سترى أمورا لا تعرف أخبارها. لكن سيدنا موسى قال له لا:سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِراً } [الكهف: 69] وأصرّ موسى أن يتبع العبد الصالح وأنه لن يعصي له أمرا، واشترط العبد الصالح ألا يسأله سيدنا موسى عن شيء إلا أن يحدثه العبد الصالح. وكان كل ذلك مجرد كلام نظري، فيه أخذ ورد، وحين جاء الواقع تغير الموقف تماما. بعد أن ركبوا في السفينة وخرقها العبد الصالح، لم يصبر سيدنا موسى بل قال:لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً } [الكهف: 71]. وهكذا أثبتت التجربة العلمية أن موسى لم يصبر على أفعال العبد الصالح، وحين ذكره العبد الصالح بما وعد به من ألا يسأل، تراجع موسى، وتكرر السؤال، وتكرر التذكير إلى أن أوضح العبد الصالح لموسى كل أسرار ما لم يحط به علما وهنا يقول الحق: { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } [الأعراف: 176] لماذا؟. لأن مشيئة الله مشيئة مطلقة، يفعل ما يريده، ولكنه سبحانه قد سبق منه أن جعل للاختيار جزاءً، لهذا لم يرفعه مع أنه مخالف، لأنها سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلاً.

السابقالتالي
2 3 4 5 6