كأن الحق يريد أن يقطع عليهم حجة مخالفتهم لمنهج الله، فينبه إلى عهد الفطرة والطبيعة والسجية المطمورة في كل إنسان حيث شهد كل كائن بأنه إلهٌ واحدٌ أحَدٌ، ويذكرنا سبحانه بهذا العهد الفطري قبل أن توجد أغيار الشهوات فينا.{ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ } [الأعراف: 172]. وهل كان أحد من الذر وهو في علم الله وإرادته وقدرته يجرؤ على أن يقول: لا لست ربي؟. طبعاً هذا مستحيل، وأجاب كل الذر بالفطرة " بلى " وهي تحمل نفي النفي، ونفي النفي إثبات مثل قوله الحق:{ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَحْكَمِ ٱلْحَاكِمِينَ } [التين: 8]. و " أليس " للاستفهام عن النفي ولذلك يقال لنا: حين تسمع " أليس " عليك أن تقول " بلى " وبذلك تنفي النفي أي أثبت أنه لا يوجد أحكم الحاكمين غيره سبحانه، وهنا يقول الحق: " ألست بربكم "؟ وجاءت الإجابة: بلى شهدنا. ولماذا كل ذلك؟ قال الحق ذلك ليؤكد لكل الخلق أنهم بالفطرة مؤمنون بأن الله هو الرب، والذي جعلهم يغفلون عن هذه الفطرة تحرُّك شهواتهم في نطاق الاختيار، ومع وجود الشهوات في نطاق الاختيار إن سألتهم من خلقهم؟ يقولون: الله وما دام هو الذي خلقهم فهو ربهم.{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [العنكبوت: 61]. وجاء الحق بقصة هذه الشهادة حتى لا يقولَنَّ أحدُ: { إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ } وبذلك نعلم أن أعذار العاصين وأعذار الكافرين التي يتعللون ويعتذرون بها تنحصر في أمرين اثنين: الغفلة عن عهد الذر، وتقليد الآباء. وما الغفلة؟ وما التقليد؟. الغفلة قد لا يسبقها كفر أو معصية، ويقلدها الناس الذين يأتون من بعد ذلك. والمثال الواضح أن سيدنا آدم عليه السلام قد أبلغ أولاده المنهج السوي المستقيم لكنهم غفلوا عنه ولم يعد من اللائق أن يقول واحد منهم إن أباه قد أشرك. ولكن جاء هذا الأمر من الغفلة، ثم جاء إشراك الآباء في المرحلة الثانية لأن كل واحد لو قلد أباه في الإشراك لانتهى الشرك إلى آدم، وآدم لم يكن مشركاً، لكن الغفلة عن منهج الله المستقيم حدثت من بعض بني آدم، وكانت هذه الغفلة نتيجة توهم أن هناك تكاليف شاقةً يتطلبها المنهج، فذهب بعض من أبناء آدم إلى ما يحبون وتناسوا هذا المنهج ولم يعد في بؤرة شعورهم لأن الإنسان إنما ينفذ دائماً الموجود في بؤرة شعوره. أما الشيء الذي سيكلفه مَشقَّة فهو يحاول أن يتناساه ويغفل عنه، هكذا كانت أول مرحلة من مراحل الانفصال عن منهج الله وهي الغفلة في آبائهم. وهنا يضاف عاملان اثنان: عامل الغفلة، وعامل الأسوة في أهله وآبائه. ولم تكن القضايا الإيمانية في بؤرة الشعور، ولذلك يقال: الغالب ألا ينسى أحد ما له ولكنه ينسى ما عليه لأن الإنسان يحفظ ما له عند غيره في بؤرة الشعور، ويُخرج الإنسان ما عليه بعيداً عن بؤرة الشعور.