الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }

وحينما تجد أن طائفة قالت قولاً، فلا بد أن هناك أناساً قيل لهم هذا القول. إذن ففيه " قوم واعظون " ، و " قوم موعوظون " ، و " قوم مستنكرون وعظ الواعظين ". وهكذا صاروا ثلاث فرق: الذين قالوا وعظاً لهم: لماذا لا تلتزمون بمنهج الله؟ هؤلاء هم المؤمنون حقاً. وقالوا ذلك لأنهم رأوا من يخالف منهج الله. والذين لاموا الواعظين هم الصلحاء من أهل القرية الذين يئسوا من صلاح حال المخالفين للمنهج. وحين ندقق في الآية: { وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ.. } [الأعراف: 164]. نعلم أن القائلين هم من الذين لم يعتدوا، ولم يعظوا وقالوا هذا التساؤل لمن وعظوا لأنهم رأوا الوعظ مع الخارجين على منهج الله لا ينفع. كما قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ }. هنا يسأل الحق رسوله: ولماذا تُحزن نفسك وتعمل على إزهاق روحك. وهنا قال بعض بني إسرائيل: لم تعظون هؤلاء المغالين في الكفر، لماذا ترهقون أنفسكم معهم، إنهم يعملون من أجل أن يعذبهم الله. وماذا قال الواعظون؟: { قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }. وما هي المعذرة إلى الله؟. يقال: عذرك فلان إذا كنت قد فعلت فعلاً كان في ظاهره أنه ذنب ثم بينت العذر في فعله، كأن تقول: لقد جعلتني انتظرك طويلاً وتأخرت في ميعادك معي. انت تقول ذلك لصديق لك لأنه أتى بعمل مخالف وهو التأخر في ميعادٍ ضربه لك. فيرد عليك: تعطلت مني السيارة ولم أجد وسيلة مواصلات، وهذا عذر. إذن فمعنى " العذر " هو إبداء سبب لأمر خالف مراد الغير. ولذلك يقال: أعذر من أنذر، والحق يقول:وَجَآءَ ٱلْمُعَذِّرُونَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ.. } [التوبة: 90]. ونعلم أيضاً أن هناك مُعْذِراً. ومُعذِّراً. والمُعَذِّر هو من يأتي بعذر كاذب، والمُعْذِر هو من يأتي بعذر صادق. وقال الواعظون: نحن نعظهم، وأنتم حكمتم بأن العظة لا تنفع معهم لأنهم اختاروا أن يهلكهم الله ويعذبهم ولكنا لم نيأس، وعلى فرض أننا يئسنا من فعلهم، فعلى الأقل نكون قد قدمنا لربنا المعذرة في أننا عملنا على قدر طاقتنا. وكلمة " وَعْظ " تقتضي أن نقول فيها: إن هناك فارقاً بين بلاغ الحكم، والوعظ بالحكم فالوعظ أن تكرر لموعوظ ما يعلمه لكنه لا يفعله. كأن تقول لإِنسان: قم إلى الصلاة، هو يعلم أن الصلاة مطلوبة لكنه لا يقوم بأدائها. إذن فالوعظ معناه تذكير الغافل عن حكم، ومن كلمة الوعظ نشأت الوعَّاظ. وهم من يقولون للناس الأحكام التي يعرفونها، ليعملوا بها، فالوعاظ إذن لا يأتون بحكم جديد. وبعض العلماء قال: إن قول الحق: { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ } ليس مراداً به الفئة التي لم تفعل الذنب ولم تعظ، إنما يراد به الفئة الموعوظة، كأن الموعوظين قالوا: إن ربنا سيعذبنا فلماذا توعظوننا؟. ونقول: لا لأن عجز الآية ينافي هذا. فالحق يقول: { مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }. ومجيء " لعلهم " يؤكد أن هذا خبر عن الغير لا أنَّه من الموعوظين. ويقول الحق بعد ذلك: { فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ... }.