الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }

والإغواء. إغراء بالمعصية، ومن الإغواء الغَيّ وهو: الإهلاك، ويقول الحق سبحانه وتعالى:فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً } [مريم: 59]. وحين نقرأ { فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي } أي فبإغوائك يا الله لي سأفعل كذا وكذا، وبذلك يكون قد نسب الإغواء لله. لكن هل يغوي ربنا أو يهدي؟. إن الله يهدي دلالة وتمكيناً، وسبق أن تكلمنا كثيراً عن هداية الدلالة ودلالة التمكين، وسبحانه خلق الشيطان مختاراً، ولم يخلقه مرغماً ومسخراً كالملائكة، ولأنه قد خُلِقَ مختاراً فقد أعطاه فرصة أن يطيع وأن يعصي، وكأن الشيطان بقوله هذا يتمنى لو أنه قد خلق مقهوراً. ويقول إن الله هو الذي أعطاه سبب العصيان. ولم يلتفت إلى أن الاختيار إنما هو فرصة لا للغواية فقط، ولكنه فرصة للهداية أيضاً. وأنت أيها الشيطان الذي اخترت الغواية. إذن فقول الشيطان: { فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي } إنما يريد به الشيطان: أن يدخل بمعصيته على الله، ونقول له: لا، إن ربنا لم يغو لأن الحق سبحانه وتعالى لا يغوي وإنما يهدي لأن الله لو خلقه مرغماً مقهوراً ما أعطاه فرصة أن يختار كذا أو يختار كذا فقد خلقه على هيئة " افعل " و " لا تفعل " ، واختار هو ألاّ يفعل إلا المعصية. { قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الأعراف: 16]. والمفهوم من العبارة أنهم بنو آدم، والقعود لون من ألوان حركة الجسم الفاعل لأن المتحرك إما أن يكون قائماً، وإما أن يكون قاعداً، وإما أن يكون مضجعاً نائماً. وأريح الحالات أن يكون نائماً مضجعاً لأن الجسم في هذه الحالة يكون مستريحاً بفعل الجاذبية الأرضية، وحين يكون الإنسان قاعداً تقاومه الجاذبية قليلاً، وحين يكون واقفاً فهو يحمل جسمه على قدميه، ولذلك نقول لمن وقف طويلاً على قدميه: " اقعد حتى ترتاح " ولو قعد وكان متعباً فيقال له: " اضطجع قليلاً لترتاح ". ولماذا اختار الشيطان أن يقول: { لأَقْعُدَنَّ }؟ حتى يكون مطمئناً، فقد يتعب من الوقفة، أيضاً وهو في حالة القعود يكون منتبها متيقظاً، والحق يقول:وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ.. } [التوبة: 5]. ولم يقل: " قفوا " حتى لا يرهق الناس أنفسهم بالوقوف الطويل، ولكن ساعة يواجهون الأمر فعليهم بالنهوض. والقعود أقرب إلى الوقوف، لأن الاضطجاع أقرب إلى التراخي والنوم، وقد اختار الشيطان الموقف الذي يحفظ له قوته، ويبقى له انتباهه: { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }. وما دام الشيطان سيغوي، وسيضل الغير، فسيختار للغواية من يكون في طريق الهداية. إنما من غَوَى باختياره وضل بطبيعته فالشيطان قد استراح من ناحيته ولا يريده، وتلك ظاهرة تحدث للناس حينما يجدون ويجتهدون في الطاعة فالشاب الطائع الملتزم يحاول الشيطان أن يخايله ليصرفه عن الصلاة والطاعة لأن الشيطان يتلصص على دين الإنسان، فهو كاللص، واللص لا يحوم حول بيت خرب.

السابقالتالي
2 3