الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يٰحَسْرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ }

إن كل رأس مال يحتاج إلى عمل يزيده، لكن أن يكون العمل قد أضاع المال، فهذا يعني الخسارة مرتين: مرة لأن رأس المال لم يبق عند حده بل إنه قد فنى وذهب وضاع، وثانية لأن هناك جهداً من الإنسان قد ضاع وأضاع معه رأس المال. إذن فقد خسر الذين كذبوا بلقاء الله لأنهم باعوا الآجل الطويل العمر بالعاجل القصير العمر. وكل إنسان منا يريد أن يثمّر عمله ويحاول أن يعطي قليلاً ليأخذ كثيراً. وعلى سبيل المثال نجد الفلاح يقتطع مقدار كيلتين من أرادب القمح التي في مخزنه ليبذرها في الأرض بعد أن تُحرث. وهذا يعني النقص القليل في مخزن هذا الفلاح، ولكنه نقص لزيادة قادمة فعندما وضع البذور في الأرض المحروثة نجد الحق سبحانه وتعالى ينبتها له أضعافاً مضاعفة. والفلاح بذلك يبيع العاجل القليل من أجل أن يأخذ الآجل الكبير. وهذه أصول حركة العاقل الذي يزن خطواته، فإن أراد أن يزيد الثمار من حركته، فعليه أن يبذل الجهد. أما إن كانت الحركة لا تأتي له إلا بالقليل فلن يتحرك. ولأن العاقل لا يحب الخسارة نجده يوازن دائماً ويقارن بين ما يبذله من جهد والعائد الذي سيأتي إليه. أما الذين كفروا بلقاء الله فهم قد خسروا أنفسهم، لأنهم لم يوازنوا بين حياتين: حياة مظنونة، وحياة متيقنة لأن مدة حياتنا الدنيا مظنونة غير متيقنة. إننا لا نعرف كم سنحيا فيها فمتوسط عمر الإنسان على الأرض هو سبعون عاماً على سبيل المثال، ولكن أحداً لا يعرف كم عمره في الدنيا بالضبط، وله أجل محدود. إنه فان وذاهب وميّت، ولكن حياة الآخرة متيقنة لا أجل لها، إنها دائمة، ونعلم أن نعيم الدنيا بالنسبة للإنسان هو على قدر الأسباب الموجودة لديه، أما نعيم الآخرة فهو على قدر طلاقة قدرة المسبب وهو الله، وعلى هذا تكون خسارة الذين كفروا كبيرة وفادحة ودامية لأنهم لم يتاجروا مع الله. { قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يٰحَسْرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا } [الأنعام: 31]. ونعلم أن " حتى " هي جسر بين أمرين فالأمر الذي نريد أن نصل إليه هو غاية، كقول إنسان ما: " سرت حتى وصلت المنزل " ، والمنزل هنا هو غاية السير. والذين كفروا، كان كفرهم وتكذيبهم موصلاً إلى الخسران، فمجيء الساعة بغتة ليس هو نهاية المطاف، ولكنه وصول إلى أول الخسران لأن خسرانهم لا ينتهي من فور مجيء الساعة، ولكنه يبدأ لحظة مفاجأة الساعة لهم. فهم يفاجأون بوقوع ما كانوا يكذبون به. ويعلمون جيداً أن ما صنعوه في الدنيا لا يستوجب إلا العذاب.

السابقالتالي
2 3