الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَهَـٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ مُبَارَكٌ فَٱتَّبِعُوهُ وَٱتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }

{ وَهَـٰذَا } إشارة وعادة ما تأتي وترد على متقدم، ولكن إذا لم يكن لاسم الإشارة متقدم أو حاضر يشار إليه فهذا دليل على أنك إن أشرت لا ينصرف إلا إليه لأنه متعين ينصرف إليه الذهن بدون تفكير لوضوحه. وكلمة { كِتَابٌ } تدل على أنه بلغ من نفاسته أنه يجب أن يُكتَب ويسجَّل لأن الإنسان لا يُسجل ولا يكتب إلا الشيء النافع، إنما اللغو لا يسأل عنه، وقال ربنا عن القرآن: إنه " كتاب " ، ومرة قال فيه: " قرآن " فهو " قرآن " يتلى من الصدور، و " كتاب " يحفظ في السطور. ولذلك حينما جاءوا ليجمعوه أتوا بالمسطور ليطابقوه على ما في الصدور. { وَهَـٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } [الأنعام: 155]. و " أنزلناه " أي أمَرْنا بإنزاله، ونزل به الروح الأمين، وكلمة " مبارك " مأخوذة من " البركة " أي أنه يعطي من الخير والثمرة فوق ما يُظَنُّ فيه، وقد تقول: فلان راتبه مائتا جنيه، ويربي أولاده جيداً ويشعر بالرضا، وتجد من يقول لك: هذه هي البركة. كأن الراتب لا يؤدي هذه المسئوليات أبداً. وكلمة " البركة " تدل على أن يد الله ممدودة في الأسباب، ونعلم أن الناس ينظرون دائماً إلى رزق الإيجاب، ولا ينظرون إلى الرزق الأوسع من الإيجاب وهو رزق السلب، فرزق الإيجاب يأتي لك بمائتي جنيه، ورزق السلب يسلب عنك مصارف لا تعرف قدرها. فنجد من يبلغ مرتبه ألفاً من الجنيهات، لكن بعض والده يمرض، ويحتاج ولد آخر إلى دروس خصوصية فتتبدد الألف جنيه ويحتاج إلى ما فوقها. إذن فحين يسلب الحق المصارف وإنفاق المال في المعصية أو المرض فهذه هي بركة الرزق، ونجد الرجل الذي يأتي ماله من حلال ويعرق فيه يوفقه الله إلى شراء كل شيء يحتاج إليه، ويخلع الله على المال القليل صفة القبول، ونجد آخر يأتي ماله حرام فيخلع الله على ماله صفة الغضب فينفقه في المصائب والبلايا ويحتاج إلى ما هو أكثر منه. وأنت حين تقارن القرآن بالتوراة في الحجم تجده أصغر منها ولكن لو رأيت البركة التي فيه فستجدها بركة لا تنتهي فكل يوم يعطي القرآن عطاءه الجديد ولا تنقضي عجائبه، ويقرأه واحد فيفهم منه معنى، ويقرأه آخر فيفهم منه معنى جديداً. وهذا دليل على أن قائله حكيم، وضع في الشيء القليل الفائدة الكثيرة، وهذا هو معنى { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } فكل كتاب له زمن محدود وعصر محدود وأمة محدودة، أما القرآن فهو يواجه من يوم أن أنزله الله إلى أن تقوم الساعة قضايا متجددة يضع لها حلولاً. والمهم أن القرآن قد جاء على ميعاد مع طموح البشريات، وحضارتها وارتقاءاتها في العقول لذلك كان لابد أن يواجه كل هذه المسائل مواجهة تجعل له السبق دائماً ولا يكون ذلك إلا إذا كانت فيه البركة.

السابقالتالي
2