الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ }

ونحن إذا سمعنا كلمة " ثم " نعلم أنها من حروف العطف، وحروف العطف كثيرة، وكل حرف له معنى يؤديه، وهنا { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ } ، وإيتاء موسى الكتاب كان قبل أن يأتي قوله:قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } [الأنعام: 151] فالتوراة جاءت ثم الإِنجيل، ثم جاء القرآن ككتاب خاتم. فكيف جاءت العبارة هنا بـ " ثم "؟. مع أن إتيان موسى الكتاب جاء قبل مجيء قوله الحق:قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } [الأنعام: 151]؟ ونقول لأصحاب هذا الفهم: أنت أخذت " ثم " لترتيب أفعال وأحداث، ونسيت أن " ثم " قد تأتي لترتيب أخبار. فقد يأتي مَن يقول لك: لماذا لا تسأل عن فلان ولا تؤدي الحق الواجب عليك له كحق القرابة مثلاً، فتقول: كيف، لقد فعلت معه كذا، ثم أنا فعلت مع أبيه كذا، ثم أنا فعلت مع جدّه كذا. إذن، فأنت تقوم بترتيب أخبار. وتتصاعد فيها، وتترقى، ولذلك قال الشاعر العربي:
إن من ساد ثم ساد أبوه   ثم قد ساد قبل ذلك جدّه
فالسيادة جاءت أولاً للجد، ثم جاءت للأب، ثم انتقلت للابن. و " ثم " في هذه الحالة ليست لترتيب الأحداث وإنما جاءت للترتيب الإِخباري أي يكون وقوع المعطوف بها بعد المعطوف عليه بحسب التحدث عنهما لا بحسب زمان وقوع الحدث على أحدهما فالمراد الترقي في الإِخبار بالأحداث. وانظر إلى القرآن بكمال أدائه يقول:وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ.. } [الأعراف: 11]. ونعلم أن الأمر من الله للملائكة بالسجود لآدم كان من البداية. فسبحانه في هذا القول الكريم يريد أن يرتب حالنا، إنه - سبحانه - خلقنا بعد أن صورنا، وصورنا، بعد أن قال للملائكة اسجدوا لآدم. ولله المثل الأعلى، تجد من يقول لابنه: لقد اعتنيت بك في التعليم العالي، ثم لا تنس أني قد اعتنيت بك في التعليم الثانوي، ثم لا تنسى أنني قد اعتنيت بك في التعليم الإعدادي ثم لا تنسى أنني قد اعتنيت بك من قبل كل ذلك التعليم الابتدائي. وأنت بذلك ترتقي إخبارياً لا أحداثياً. فقد يكون الحدث بعد ولكن ترتيب الخبر فيه يكون قبل. { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ } [الأنعام: 154]. طبعاً ما دام جاء بسيرة موسى فالكتاب هو التوراة وإذا أطلق الكتاب من غير تحديد فإنّه ينصرف إلى القرآن، لأنه هو الكتاب الجامع لكل ما في الكتب، والمهيمن على كل ما في الكتب. أما لو قيل مثلاً: أنزلنا على موسى الكتاب، فيكون الكتاب هو التوراة، أو أنزلنا على عيسى الكتاب، فيكون الكتاب هو الإنجيل. { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ } [الأنعام: 154].

السابقالتالي
2 3