الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَٰبِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ }

وقول الحق سبحانه: { وَكَذٰلِكَ } تدل على أن شيئاً شبِّه بشيء، فكما وُجد في مكة من يناصبك العداء ويناهضك ويقاومك في أمر الدعوة إلى الله، ويصدّ عن سبيل الحق إن تلك قضية ليست فيها بدعاً من الرسل لأن هذه المسألة قضية سائدة مع كل رسول في موكب الإيمان، و " كذلك " أي كما جعلنا في مكة مجرمين يمكرون جعلنا في كل قرية سبقت مع رسول سبق هذه المسألة، فلم تكن بدعاً من الرسل. وحيث إنك لم تكن بدعاً من الرسل فلتصبر على ذلك كما صبر أولو العزم من الرسل. وأنت أولى منهم بالصبر لأن مشقاتك على قدر مهمتك الرسالية في الكون كله، فكل رسول إنما جاء لأمة محدودة ليعالج داءً محدوداً في زمان محدود. وأنت قد جئت للأمر العام زماناً ومكاناً إلى أن تقوم الساعة، فلابد أن تتناسب المشقات التي تواجهك مع عموم رسالتك التي خصّك الله بها. { وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا.. } [الأنعام: 123]. والإجرام هو مأخوذ من مادة " الجيم " و " الراء " و " الميم " ، الجرْم والجُرْم والجريمة. فيها معنى القطع. و " مجرميها " جمع مجرم، ومجرم من أجرم، وأجرم أي ارتكب الجُرم والجريمة، ومعنى ذلك أنه قطع نفسه بالجريمة عن مجتمعه الذي يعايشه، فهو يعزل نفسه لا لمصلحة لأحد إلا لمصلحته هو، فكأنه قام بعملية انعزال اجتماعي، وجعل كل شيء لنفسه، ولم يجعل نفسه لأحد لأنه يريد أن يحقق مرادات نفسه غير مهتم بالنتائج التي تترتب على ذلك. إذن فالإجرام هو الإقدام على القبائح إقداماً يجعل الإنسان عازلاً نفسه عن خير مجتمعه لأنه يريد كل شيء لنفسه. وما دام كل شيء لنفسه فعامل التسلط موجود فيه، ويرتكب الرذائل. ولأنه يرتكب الرذائل فهو يريد من كل المجتمع أن تنتشر فيه مثل هذه الرذائل كي لا يشعر أن هناك واحداً أحسن منه. { لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } [الأنعام: 123]. والمكر - كما تعرف - مأخوذ من التفاف الأغصان بعضها على بعض التفافاً بحيث لا تستطيع إذا أمسكت ورقة من أعلى أن تقول هذه الورقة من هذا الفرع لأن الأغصان والفروع ملفوفة ومتشابكة ومجدولة بعضها مع بعض. والماكر يصنع ذلك لأنه يريد أن يلف تبييته حتى لا يُكشف عنه، وما دام يفعل ذلك فاعلم من أول الأمر أنه ضعيف التكوين لأنه لو لم يعلم ضعف تكوينه لما مكر لأن القوي لا يمكر أبداً، بل يواجه، ولذلك يقول الشاعر:
وضعيفة فإذا أصابت فرصة   قتلت كذلك قدرة الضعفاء
والضعيف عندما يملك فهو يحدث نفسه بأن هذه فرصة لن تتكرر، فيجهز على خصمه خوفاً من ألا تأتي له فرصة أخرى، لكن القوي حين يأتي لخصمه فيمسكه ثم قد يُحدث نفسه بأن يتركه، وعندما يرتكب هذا الخصم حماقة جديدة فيعاقبه.

السابقالتالي
2 3