الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوۤاْ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ }

هنا يوسع الحق المسألة. فلم يقل: إنهم سوف يؤمنون، بل قال: { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ } مثلما اقترحوا، أو حتى لو كلمهم الموتى، كما قالوا من قبل:فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [سورة الدخان: 36] ويأتي القول: { وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ } و " الحشر " يدل على سوق بضغط مثلما نضع بعضاً من الكتب في صندوق من الورق المقوى ونضطر إلى أن نحشر كتاباً لا مكان له، إذن: الحشر هو سوق فيه ضغط، وهنا يوضح الحق: لو أنني أحضرت لهم الآيات يزاحم بعضها بعضاً وقدرتي صالحة أن آتي بالآيات التي طلبوها جميعاً لوجدت قلوبهم مع هذا الحشر والحشد تضن بالإيمان. { وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً } و " قبلا " هي جمع " قبيل " ، مثل سرير وسُرُر. { وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً }. وهذا يعني أن الحق إن جاء لهم بكل ما طلبوا من آيات، وكأن كل آية تمثل قبيلة والآية الأخرى تمثل قبيلة ثانية، وهكذا. فلن يؤمنوا، أو " قُبُلا " تعني معاينة أي أنهم يرونها بأعينهم، لأن في كل شيء دُبُرا وقُبُلا والقُبُل هو الذي أمام عينيك، والدبر هو من خلفك. فإن حشرنا عليهم كل شيء مقابلا. ومعايناً لهم فلن يؤمنوا. وإن أخذتها على المعنى الأول أي أنه سبحانه إن حشد الآيات حشداً وصار المُعْطَى أكثر من المطلوب فلن يؤمنوا. وإن أردت أن تجعلها مواجَهةً، أي أنهم لو رأوا بعيونهم مواجهة مَن أمامهم فلن يؤمنوا. { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوۤاْ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } [الأنعام: 111]. وجاء الحق هنا بمشيئته لأن له طلاقة القدرة التي إن رغب أن يرغمهم على الإيمان فلن يستطيعوا رد ذلك، ولكن الإرغام على الإيمان لا يعطي الاختيار في التكليف ولذلك قال سبحانه:لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [الشعراء: 3-4]. والله لا يريد أعناقاً تخضع، وإنما يريد قلوباً تخشع. لذلك يذيل الحق الآية بقوله: { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ }. والجهل يختلف عن عدم العلم، بل الجهل هو علم المخالف، أي أن هناك قضية والجاهل يعلم ما يخالفها، أما إن كان لا يعلم القضية فهذه أمية ويكفي أن نقولها له حتى يفهمها فوراً. لكن مع الجاهل هناك مسألتان: الأولى أن نزيل من إدراكه هذا الجهل الكاذب، والأخرى أن نضع في إدراكه القضية الصحيحة، وما دام أكثرهم يجهلون. فهذا يعني أنهم قد اتبعوا الضلال. ويقول الحق بعد ذلك: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ... }.