الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ ٱلْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَٰتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَٰنَهُ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ }

ومادة الجن هي " الجيم " و " النون " وكلها تدل على الستر والتغطية والتغليف، ومنها الجنون، لأن العقل في هذه الحالة يكون مستوراً، ونحن لا نرى الجن، فهم مستورون، والملائكة كذلك، والمادة كلها مادة " الجيم " و " النون " تدل على اللف والتغطية. { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ ٱلْجِنَّ } و " الجن " هو الخفي من كل شيء، والجن - كما تعلمون - هم خلق من خلق الله فسبحانه خلق الإنس وخلق الجن، خلق الجن مستوراً حتى لا نعتقد أن خلق الله لحي كائن، يجب أن يتمثل في هذا القالب المادي، بل سبحانه يخلق ما شاء وكما شاء، فيخلق أشياء مستورة لا تُرى، ولها حياة، ولها تناسل، ويخلق أشياء مستورة، ولا تناسل لها: كل ذلك بطلاقة قدرة الحق سبحانه، ليقرب لنا هذه القضية لأن عقولنا قد تقف في بعض الأشياء التي لا تدرك ولا ترى لأننا لا نعلم وجوداً لشيء إلا إذا أحسسناه. إن الحق سبحانه يوضح ذلك. فإياك أن تظن أنك تستطيع أن تدرك كل ما خلقه الله، فليس حسك هو الوسيلة الوحيدة للإدراك لأن حسك له قوانين تضبطه، فأنت ترى، ولكنك ترى بقانون، بحيث إذا بعد المرئي عنك امتداداً فوق امتداد بصرك فلا تراه وكذلك أذنك تسمع، فإن بعد الصوت أو مصدر الصوت عنك بحيث لا تصل الذبذبة إليك، فلا تسمع، كذلك عقلك، قد تفهم أشياء ولا تفهم أشياء أخرى، ثم ضرب لنا في وجودنا المادي أمثالاً تقرب لنا ذلك الخلق الخفي من الجن ومن الملائكة. لقد وجدنا العقل البشري قد هداه الله الذي قدر فهدى، إلى أن يكتشف شيئاً اسمه " الميكروب " و " الميكروب " كائن حي دقيق جداً بحيث إن البصر العادي لا يدركه، ولكنه كان موجوداً، وفعل الأفاعيل في الناس ودخل في أجسامهم دون أن يشعروا كيف دخل وعمل فيهم وفي صحتهم ما عمل من الهلاك والموت مثل أمراض الطاعون والكوليرا وغيرها، ومع ذلك فالميكروب كان موجوداً ومن جنس وجودنا، أي هو مادة وله حياة وله فعل، وله نفوذ في الهيكل الذي يدرك وهو الإنسان. وهكذا رأينا أن شيئاً خفياً لا يدرك ويهدد إنساناً ضخماً يدرك، فهل معنى اكتشاف الميكروب أننا أوجدناه؟ لا، إن وجود الميكروب شيء، وإدراك وجوده شيء آخر، وإذا حللنا " الميكروب " نجد أنه مادة الإنسان ولكنه دقيق جداً حتى إن العين المجردة لا تراه، فلما اكتشف المجهر وكبرناه عرفناه، وهذا الكائن الحي إن كنت لا تراه، فعدم رؤيتك له سابقاً لا تعني أنه غير موجود، بل هو موجود ولكنك لم تدركه، ثم اكتشفت - أيها الإنسان - آلة جعلتك تدركه، ولنعرف أن وجود شيء لا يعني أنك من الضروري أن تدركه، فإذا قال الله لك: لي ملائكة من خلقي، ولي جن من خلقي، ولكنكم لا ترونهم وهم يرونكم، نقول: صدقت يا ربي، لأن شيئاً من جنس مادتنا كان موجوداً ولا نراه ثم بعد ذلك رأيناه.

السابقالتالي
2 3 4