الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } * { مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } * { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ }

قوله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ.. } [الذاريات: 56] الخَلْق هو إيجاد المادة من عدم وتصويرها على غير مثال سابق، والخَلْق بهذه الصورة لا يكون إلا لله وحده، ومع ذلك لم يحرم خَلْقه من هذه الصفة، فأعطاهم صفة الخَلْق على قدرهم. وقال سبحانه عن نفسه:فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } [المؤمنون: 14] فأنت خالق حينما تبرز للوجود شيئاً جديداً لم يكُنْ من قبل، كالذي يصنع الكوب مثلاً من الرمل يُسمَّى خالق لأنه أوجده، نعم هو خالق ولم يُحرم ثمرة جهده. أما الحق سبحانه فهو أحسن الخالقين، ومعلوم أن البشر يخلقون من مادة موجودة، أما الحق سبحانه فيخلق من غير موجود، البشر يخلقون مادة جامدة لا حياةَ فيها، أما الخالق سبحانه فيخلق خَلْقاً حياً مُتجدداً ينمو ويكبر، إلى غير ذلك من الوجوه في هذه المسألة، فنحن نخلق لكن الله أحسنُ الخالقين. ثم إن الحق سبحانه خَصَّ هنا الجنَّ والإنس في مسألة العبادة، ولم يذكر خَلْقاً آخر أعظم هم الملائكة، قالوا: لم يذكر الملائكة في هذا المقام لأنهم خُلِقوا للعبادة وليس لهم اختيار فيها، فهم مخلوقون بدايةً، ومُهيَّئون لعبادة الله، وجُبِلوا على ذلكلاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم: 6]. والحديث هنا عن الخَلْق المختار الذي ينتظر منه الطاعة، وينتظر منه العصيان. فإنْ قلتَ: فلماذا قدَّم الجن على الإنس في هذه المسألة؟ قال بعض العلماء: قدَّم الجن على الإنس، لأن العبادة إما سرية وإما جهرية، وعبادة الجن سِرية لأننا لا نراهم، والعبادة السرية أفضل لأنها لا يدخلها الرياء، أما عبادة الإنس فجهرية في الغالب ويدخلها الرياء. وهذا القول يمكن الردّ عليه بأن عبادة الجن سرية بالنسبة لنا، لأننا لا نراهم لكن جهرية بالنسبة لجنسه، ويمكن أيضاً أنْ يدخلها الرياء، فهم يرى بعضهم بعضاً. لكن يمكن توجيه المسألة توجيهاً آخر، فنقول: لو أنك قرأتَ القرآن باستيعاب لوجدتَ أن الجن خُلِقوا قبلناوَٱلْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ } [الحجر: 27] فقدَّمه على الإنس لأنه خُلِق قبلهم. ثم إن معظم انصراف الإنس عن العبادة بسبب الشيطان وهو من الجنإِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ.. } [الكهف: 50] ولهذا قدِّموا علينا في مسألة العبادة. والأسلوب في قوله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56] أسلوب قصر. أي: قصر خَلْق الإنس والجن على العبادة، فهي العلة الوحيدة لهذا الخَلْق، ما خلقهم لشيء آخر سوى عبادته سبحانه. والعبادة تعني طاعة العابد للمعبود في أمره ونهيه، وهذه العبادة بهذا المعنى هي العبادة الحق، وهي مطلوب الله من العباد، لذلك لا يقبل الله إلا ما كان له خالصاً. وهذه العبادة الحق لا يأتي بها كُلُّ الخلق، بل يأتي كُلٌّ منهم على قدر روحه وعلى قدْر نظره للإله الحق الذي يعبده.

السابقالتالي
2 3 4