الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَفِي مُوسَىٰ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } * { فَتَوَلَّىٰ بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } * { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي ٱلْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ }

بعد أنْ حدَّثتنا الآيات عن طرف من قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام تُحدثنا الآن عن سيدنا موسى عليه السلام، لماذا؟ لأن القرآن كثيراً ما يأتي بإبراهيم وموسى في قرن واحد لما بينهما من تشابه في مسيرة الدعوة إلى الله. اقرأ:إِنَّ هَـٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ } [الأعلى: 18-19] وقال:أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ * وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ } [النجم: 36-37]. فالقرآن يربط بينهما لأن سيدنا إبراهيم أول ما تعرَّض في أمر الدعوة تعرَّض للرجل الذي حاجَّه في ربه، ويبدو من سياق القصة أنه ادَّعى الألوهية بدليل قولهأَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ.. } [البقرة: 258]. وبعد ذلك كان لإبراهيم مواقف في إظهار آيات الله للناس، فهو أول مَنْ علَّمهم أنْ ينظروا في الآيات الكونية، ثم كانت له مواقف مع عبدة الأصنام، خاصة مع أبيه آزر، ثم جاءت أحداث إلقائه في النار، ثم رُزِقَ الولد، وابتُلِي بالأمر بذبحه، ثم جاءت قصة بناء البيت، إلى آخر أحداث قصته. لذلك قال الله في شأنه:وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } [البقرة: 124] أي: أدّاها كاملة لا بالمنطق العادي في الأشياء، إنما بمنطق الإجادة والإحسان، لذلك مدحه ربُّه فقال:إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [النحل: 120] أي: يجمع من خصال الخير ما لا يتوفر إلا في أمة كاملة. كذلك مَرَّ سيدنا موسى عليه السلام بمواقف وابتلاءات مشابهة في رحلة دعوته لفرعون الذي ادَّعى الألوهية، فقال لقومه:مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي.. } [قصص: 38]. الواو في { وَفِي مُوسَىٰ.. } [الذاريات: 38] عاطفة، فالمعنى في موسى آية من آيات الله معطوفة على قوله تعالى:وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } [الذاريات: 20] كذلك في موسى آيات { إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } الذاريات: 38] أي: بحجة واضحة بيِّنة. وسبق أنْ أوضحنا أن السلطان قد يكون سلطانَ قوة وقهر تخضع المقابل، أو سلطانَ برهان وحجة يقنعه. سلطان القهر يقهر القالب، وسلطان الحجة يقنع العقل ويستميل القلب، وموسى عليه السلام لم يكُنْ يملك إلا حجةَ الإقناع، ولا قوة له على فرعون يقهره بها، فأعطاه الله سلطاناً مبيناً يقنع به فرعون، وهو الآيات والمعجزات التي صاحبتْ دعوته. والمعجزة لا تؤتي ثمارها في القوم إلا إذا كانت من جنس ما نبغوا فيه وأتقنوه، ولو تحداهم بشيء لا يعرفونه ما كان للتحدي معنى، لذلك كانت معجزة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، لأن العرب نبغوا في البلاغة والفصاحة، فتحدَّاهم بما نبغوا فيه. أما قوم فرعون فقد نبغوا في السحر فكانوا سحرة، لكن مُكرهين على السحر بدليل أن فرعون لما استدعاهم من الآفاق لمقابلة موسى بسحرهم قالوا

السابقالتالي
2