الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ قِيَٰماً لِّلنَّاسِ وَٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَٱلْهَدْيَ وَٱلْقَلاَئِدَ ذٰلِكَ لِتَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَأَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

" جعل " تعني بَيَّن ووضَّح، فقال: إن الكعبة محرمة ولها كرامة تستحق من المؤمن أن يأمن فيها. أو " جعل " تعني إيجاد صفات للأشياء بعد أن تكون ذات المادة موجودة، مثل قوله الحق سبحانه:وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [النحل: 7]. أي أنه سبحانه خصص جزءا من خلايا الإنسان ليكون عيناً، وجزءا آخر ليكون أذناً، وجزءا ثالثاً ليكون لساناً. والحق هنا يقول: { جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ }. ونعرف أن كل الأسماء للمعنويات مأخوذة من المُحسات. والكعب هو الشيء الناتىء الخارج عن حد المتساوي. ومثال ذلك الكعب في القدم يكون مرتفعاً. وكذلك الفتاة نطلق عليها: " طفلة " وهي دون البلوغ، وعند البلوغ وظهور الثديين نقول إنها " كَعَاب وكاعب " ، أي أن ثدييها قد صارا مرتفعين، والكعبة نتوء، والنتوء ارتفاع، وهذا الارتفاع هو علامة البيت، فالبيت هو مساحة من الأرض، أما الارتفاع فهو يحدد الحجم. ومثال ذلك عندما نريد حساب مساحة الأرض نقيس الطول والعرض، ونضرب الطول في العرض حتى نحسب المساحة. أما إذا كان هناك ارتفاع فهذا يعني الانتقال من المساحة إلى الحجم. والحق سبحانه يقول:وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ } [البقرة: 127]. أي أن سيدنا إبراهيم بعمله إنما أراد أن يصنع للبيت ارتفاعاً وحجماً، وهذا البناء يدل على صناعة حجم لمساحة من الأرض. إذن فالكعبة هي البيت بعد أن صار له ارتفاع. وكلمة " بيت " تعني المكان الذي أعد للبيتوتة، فالإنسان يضرب في الأرض طيلة نهاره وعندما يحب أن يستريح يذهب إلى البيت. فالله جعل الكعبة بيتاً للناس حتى يستريحوا فيه من عناء حياتهم ومشقة كدحهم لأنه بيت ربهم باختيار ربهم، لا باختيارهم، فكل مسجد هو بيت لله ولكن باختيار خلق الله، أما الكعبة فهي بيت الله باختيار الله، وهي قبلة لبيوت الله التي قامت باختيار خلق الله. { جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ } وكلمة { ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ } تدل على أن له حرمات كثيرة. وجعل الله الكعبة بيتاً حراماً لكل المسلمين قياماً. والقيام هو الوقوف، والوقوف هو القيام على الأمر. والقائم على أمرٍ ما يحفظ له قوام حياته ووجوده. وهكذا نفهم أنه سبحانه أراد أن تكون الكعبة هي البيت الحرام ليحفظ على الناس قوام حياتهم، بالطعام والشراب واستبقاء النسل ودفع الأذى، وفوق ذلك له سيطرة وسيادة وجاه وتمكين، ولذلك يعطي الإيمان الحياة الراقية، فالحياة مسألة يشترك فيها المؤمن والكافر، وتبدأ بوجود الروح في المادة فتنتقل المادة إلى الحالة الحس والحركة، والمؤمن هو من يرتقي بحياته فيعطي لها بالإيمان منافع، ويسلب عنها المضار، فيأخذ السيادة، وبذلك تتصل حياته الدنيا بحياته في الآخرة، فلا تنتهي منه الحياة أبداً.

السابقالتالي
2 3 4 5 6