الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ }

الحق سبحانه وتعالى يعطي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة تصبره على ما يلاقيه من خصومه من أهل الكتاب، وكأنه يقول له: إن هذا الأمر ليس بدعاً وليس عجيباً لأن تاريخ أهل الكتاب الطويل يؤيد هذا، فها هوذا موقفهم من نبي الله داود، وكذلك موقفهم من عيسى ابن مريم عليه السلام. وهذا يجعل لك أسوة بهؤلاء الرسل الذين نالهم من أذى هؤلاء. فالمسألة ليست خاصة بك وحدك، وإنما هي طبيعة فيهم، ويبسط سبحانه في التسرية عن رسوله صلى الله عليه وسلم حتى يجعل موقفه موقف الصلابة الإيمانية التي لا تخاف ولا تهتز. فينسب هذه الأشياء لنفسه فيقول:قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ٱلَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّالِمِينَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } [الأنعام: 33]. فمرة قالوا عن الرسول: إنه مجنون، ومرة أخرى قالوا: " ساحر " وثالثة قالوا: " كذاب ". وهم يعرفون كذبهم، فهم على الرغم من اتهامهم للرسول بالكذب والجنون والسحر إلا أنهم لا يأمنون أحداً على مصالحهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الأمين دائماً. وكان لهم أن يتعجبوا من موقفهم هذا، ومن صدهم عن دين الله بالكفر، وعلى الرغم من ذلك فعندما يكون هناك شيء ثمين ونفيس فلا يُؤمَن عليه إلا محمد بن عبدالله. ما هذا الأمر العجيب إذن!! لقد عرفوا صدق النبي صلى الله عليه وسلم وحقيقة رسالته - ما في ذلك ريب - ولكن لأن لهم أهواء أصرّوا على الضلال تمسكاً بالسلطة الزمنية. هم يعرفون أن محمداً هو الأمين. ولذلك نرى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع عليّاً - كرم الله وجهه - ويتركه في مكة ليؤدي الأمانات التي كانت عنده لهؤلاء جميعاً. إذنقَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ٱلَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ } [الأنعام: 33]. أي أنك يا رسول الله عندهم الصادق. أنت عندهم يا رسول الله الأمين. أنت عندهم يا رسول الله في منتهى السمو الخلقي. ولو لم تقل إنك رسول من الله لكانوا قد رفعوك إلى أعلى المنازل. ولكنك ببلاغك عن الله زلزلت سلطتهم الزمنية. ولقد حاولوا أن يثنوك عن الرسالة، فعرضوا عليك الملك، وعرضوا عليك الثراء، ولو كنت تقصد شيئاً من ذلك لحققوا لك ما تريد. ولكنك تختار البلاغ الأمين عن الله. لقد عرضوا عليك الملك طواعية. وعرضوا عليك الثروة. وزينوا لك أمر السيادة فيهم شريطة أن تتخلى عن الرسالة. لكنك تختار السبيل الواضح الذي لا لبس فيه على الرغم مما فيه من متاعب، تختار السبيل الذي يكلفك أمنك وأمن من يتبعك. إنك تتبع ما أنزل إليك من ربك. ومن بعد ذلك جاءوا ليحاصروك في الشِّعب ليمارسوا معك الحصار الاقتصادي بتجويعك وتجويع من معك.

السابقالتالي
2