الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاۤئِمٍ ذٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }

والخطاب هنا للمؤمنين، وكل نداء مثل هذا قد يجيء بعده حكم من الأحكام أو بشارة من البشارات أو وعيد للمخالف. والذي يأتي فيه شبه إشكال وليس بإشكال، هو أن يأتي هذا القول ويكون ما بعده أمر بالإيمان كقوله الحق: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ } فسبحانه يناديهم كمؤمنين ويطلب منهم الإيمان، ومثال ذلك قول القائل: " يا قائم قم " برغم أن المفروض أن يكون القول: " يا قائم اجلس " أو " يا قائم تعال " ، أو " يا قائم انصرف إلى فلان " ، فكيف إذن يقول الحق: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ }. هنا نقول: ما الإيمان؟ الإيمان هو استقرار العقيدة في القلب فلا تطفو للذهن لتناقش من جديد. ونسمي ذلك عقيدة، أي أمراً معقوداً في القلب. إذن فالحق سبحانه وتعالى حينما يخاطب مؤمناً يطالبه أن يؤمن، فمعنى ذلك أن الحق يقول: أنت آمنت قبل أن أناديك وبسر الإيمان ناديتك فحافظ على هذا الإيمان دائما. وجدد دائماً إيمانك لأنني ناديتك بوصف الإيمان الذي عرفته فيك. إن الحق يوضح: يا أيها الذين آمنوا داوموا على إيمانكم ولتكن كل لحظة من لحظات حياتكم المقبلة في إيمان عالٍ مرتقٍ قبل أن أتكلم معكم بوصف الإيمان أنتم آمنتم أولاً فناديتكم فحافظوا على ذلك واثبتوا على إيمانكم. ومعنى قوله: { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } أي من يتراجع منكم عن الإسلام فسيأتي الله بعوض عنه، وسيأتي بقوم لن يكونوا مثل هؤلاء المرتدين. إذن فمن يرتد فعليه أن يفهم أنه لن ينقص جند الله واحداً لأن الذي أذن لشرعه أن ينزل على رسول ونبي خاتم لن يجعل هذا الرسول وهذا المنهج تحت رحمة أغيار الناس. فإن خرج أناس عن المنهج فالله يستبدل بهم غيرهم. وفي هذه الآية أسلوب يخالف آية البقرة في الوجه الإعرابي، وسبحانه يقول في آية البقرة:يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ ٱللَّهِ وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلۤـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأُوْلۤـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [البقرة: 217] هنا وجدنا الحق يقول: { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ } أما في الآية التي نحن بصددها في سورة المائدة فهو سبحانه يقول: { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } ونجد الأسلوبين مختلفين. والحكمة العليا في أن الحق سبحانه وتعالى يأتي في كتابه بآيات متحدة في المعنى إلا أن وجه الإعراب فيها يختلف ليدلنا أن القرآن نزل إلى الناس كافة.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد