الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنْكَ وَٱرْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ }

وقوله الحق: { مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } إنما يعني أن هناك لله موائد منصوبة في الأرض. والكون كله مائدة فيها من الخير الكثير إن استطاع الإنسان أن يكد ويكدح. والإنسان منا عندما يكد ويكدح ويستخرج من الأرض الزرع ويرعى الحيوانات فإنه يأتي إلى زوجه بمخزون قد يكفيهم كأسرة لمدة عام من دقيق وأرز وعسل وسكر وزيت، فتأخذ الزوجة طيراً فتذبحه وتطهو معه الخبز والخضراوات. إذن فالكون كله مائدة الله المنصوبة والتي يأخذ منها كل إنسان على قدر عمله. وكلمة " مائدة " لا تطلق إلا على الخوان وعليه طعام. أما إن كانت بغير طعام فنطلق عليها " خواناً " لأن " المائدة " مأخوذة من مادة " الميم والألف والدال " والمائدة تميد أي تضطرب من كثرة ما عليها من أشياء. أو هي تعطي مما عليها من أشياء. فالمائد هو المُعْطَي. وقول عيسى عليه السلام يمتلئ بكل المعاني القيمة، فهو يطلب أن تكون المائدة مناسبة لعيد يفرح به الأولون والآخرون وآية من الحق سبحانه وتعالى، ويطلب من فضل ربوبية الرازق أن يرزقهم، ويعترف بامتنان أن الحق هو خير الرازقين. والمقارنة بين قول الحواريين وقول عيسى تدلنا على الفارق بين إيمان المبلغ عن الله، وإيمان الذين تلقوا البلاغ عن عيسى. إيمان عيسى هو الإيمان القوي الناضج. أما إيمان الحواريين فهو إيمان ناقص، لقد كانت قوة إيمان عيسى نابعة من أنه يتلقى عن الله مباشرة، أما الحواريون فليسوا كذلك، على الرغم من أنهم آمنوا بالبلاغ عن الله وتم ذلك بواسطة رسول، ولذلك يعلو الرسول على المؤمنين ببلاغة في سلم الإيمان درجة أعلى. إنه يتلقى عن الله، ولهذا صحح عيسى عليه السلام طلبهم من الله وهو يدعو ربه. إنه رسول مُصطفى مُجتَبَى لذلك يضع الأمور في نصابها اللائق فيقول: " اللهم ربنا " و " اللهم " هي في الأصل " يا الله " ، وعندما كثر النداء بها حذفنا منها حرف النداء وعوضناه بالميم في آخرها، فصارت: " اللهم ". وكأن هذا اللفظ: " اللهم " تتهيأ به نفس الإنسان لمناجاة الله في تقديس وثقة في أنه سبحانه يستجيب، وهو نداء يقوم على عشق العبد لمولاه، فلا يوسط بينه وبين اسم ربه أي حرف من حروف النداء. إننا نلحظ أن عيسى عليه السلام قدم كلامه لله بصفة الألوهية: " اللهم " فهو كنبي مرسل يعلم تجليات صفة الله. وهي تجليات عبادة من معبود إلى عابد. أما تجليات كلمة " رب " فهي تجليات تربية من رب إلى مربوب، والفارق بين عطاء الألوهية للخلق، وعطاء الربوبية، هو أن عطاء الألوهية تكليف من معبود إلى عابد.

السابقالتالي
2