الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }

أيضاً نداء خاص بالذين آمنوا، وهو النداء الثالث بعديٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ.. } [الحجرات: 1] وبعديٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ.. } [الحجرات: 2] وهنا { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ.. } [الحجرات: 6]. ونلاحظ أن النسق القرآني لم يجمع بين هذه الأمور الثلاثة في نداء واحد، ولم يستخدم أدوات العطف إنما خصَّ كل أمر منها بنداء خاص لمزيد التأكيد والاهتمام. ففي وصية سيدنا لقمان لابنه قال:يٰبُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِٱللَّهِ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان: 13]. وقال:يٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ * وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَٱقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَٱغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوَاتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ } [لقمان: 17-19]. إذن: خصّ مسألة العقيدة بنداء خاص لأهميتها، وجمع عمل الجوارح في نداء واحد لأنها على مستوى واحد من الأهمية في الدين. إذن: نفهم من تكرار النداء بيأيها الذين آمنوا أنه يعطي أهمية خاصة لكل نداء. ومعنى { إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ.. } [الحجرات: 6] الفاسق وصْف مأخوذ من قولنا فسقت الرطبة. يعني: خرجت عن قشرتها، وخروج الرطبة عن قشرتها يُعرِّضها للحشرات وللآفات الضارة. كذلك المؤمن يُغلفه الإيمان ويحميه أنْ تصيبه آفات النفوس، فإذا فسق يعني: خرج عن حدود الإيمان وشذَّ عنه أصابته الأمراض المهلكة، لذلك قالوا عن الفاسق هو مرتكب كبيرة أو مجهول الحال. فإذا جاءك النبأ أي الخبر من مثل هذا من فاسق فلا تُسلم له بما قال، إنما { فَتَبَيَّنُوۤاْ.. } [الحجرات: 6] يعني: تثبَّتوا من صحة هذا الخبر ومن صدَّقه. قف حتى تتبين وجه الحقيقة فيما سمعتَ حتى يكون حكمك على الأمور واقعياً، ولا تأخذك العجلة والحمية فتقع في محظور { فَتَبَيَّنُوۤاْ أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [الحجرات: 6]. الحق سبحانه يأمرنا بالتثبت هنا لأن الإنسان ابن أغيار كثير التقلب، فربما اتصف بالصدق، لكن كذب هذه المرة أو اتصف بالكذب، لكن صدق هذه المرة، فالتثبت احتياط واجب، حتى يأتي الحكم والتصرف بعد ذلك موضوعياً ولا نقع في دائرة الظلم والتعدي على الآخرين. تبيَّن من خبر الفاسق لعله يكون من الأشياء التي عصى الله فيها، لأن العصيان عنده سهلٌ، فلو صدَّقته ربما تصيب قوماً لا ذنبَ لهم. { بِجَهَالَةٍ.. } [الحجرات: 1] وأنت تجهل حقيقة الأمر، وعندها يصبح المصاب صاحبَ حق وأنت مُعتد فتندم على تعدِّيك وتجاوزك للصواب، تندم لأنك جعلتَ مَنْ أسأته صاحبَ حَقٍّ عليك. وفرْق بين مَنْ يفعل الذنب بجهالة ومَنْ يفعله متعمداً، وبحسب موقف النفس البشرية من المعصية يكون قبول التوبة، وأذكر ونحن في فرنسا أن واحداً من الزملاء رُشِّح لأنْ يكون مبعوثاً إلى فرنسا، هذا ذاهب إلى هناك لقصد العلم فقط وليس في باله أي أغراض أخرى، وهناك سكن على طريقة الغرباء في أحد البيوت مع إحدى الأسر.

السابقالتالي
2