الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ }

النداء هنا أيضاً للذين آمنوا، ألاَّ يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبي في حضرته، وكذلك لا يرفعوا رأيهم فوق رأيه، ومن أدب الحديث عموماً ألاَّ ترفع صوتك، لأن رفع الصوت فيه استعلاء، أو على الأقل فيه مساواة، فما بالك إنْ كان مُحدِّثك رسول الله؟. إذن: وجب عليك ألاَّ يعلو صوتك على صوته، بل يكون صوتك أقلَّ وأخفت، وتكلّمه بأدب وخشوع، فكما آمنتَ به نبياً ورسولاً مبلِّغاً وقدمتَ رأيه على رأيك. فكذلك حين تُحدِّثه لا ترفع صوتك فوق صوته، فصوته صلى الله عليه وسلم ينبغي أنْ يكون الأعلى، لأنه الأوْلَى بالاستماع وبالاهتمام، ونحن في حقبة من تاريخنا شاعتْ بيننا مقولة لا صوتَ يعلو فوق صوت المعركة لأن المعركة في هذا الوقت كانت هي الحل. والمعنى: لا يعلو صوتٌ على صوته. { وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ.. } [الحجرات: 2] لا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضاً، فلا نقول: تعالى يا أحمد تعال يا محمد. بل نقول: يأيها النبي يأيها الرسول، يا رسول الله، لأن ربك الذي خلقك وخلقه وأرسله لك رسولاً خاطبه هكذا. في حين أنه تعالى خاطب كل الرسل بأسمائهم: يا آدم، يا نوح، يا إبراهيم، يا موسى، يا عيسى إلا محمداً صلى الله عليه وسلم لم يخاطبه باسمه إنما بوصفه يا أيها النبي يا أيها الرسول فإذا كان خالقه لم يدعه باسمه. إذن: وجب عليك أنْ تدعوه بهذه الوصف، إلا إذا كنتَ أنت أعلى مقاماً من الذي خلقك والعياذ بالله. وقوله تعالى: { أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ.. } [الحجرات: 2] أي: خشية أنْ تحبط أعمالكم. يعني: تبطل وتفسد، لماذا؟ لأن الجهر لرسول الله بهذه الصورة أو رفْع الصوت عنده يُعد مخالفة للمنهج الذي جاء به. فرسول الله لم يأت بمنهج من عنده، إنما هو مبلِّغ عن الله، فمَنْ خالف في ذلك فقد خالف منهج الله واستحقَّ أنْ يحبط عمله، ثم في إهانة الرسول إهانة لمن أرسله. وقوله: { وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } [الحجرات: 2] أي: يحبط عملك ويبطل وأنت لا تدري، فهذه المسألة من الأشياء الدقيقة التي ينبغي التنبه لها، فمع كونه صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رؤوفٌ رحيمٌ لكن لا تغرّنك هذه الصفات وتجعلك تساويه بغيره في النداء، بل احتفظ له صلى الله عليه وسلم بمنزلته ومهابته وكرامته، ولا تجعله مثلك في الخطاب، مثل رجل يُدلل الخادم فيغتر الخادم بذلك، حتى أن سيده يناديه فلا يجيب. لذلك الرجل العربي دخل على قوم لا يعرفهم ولا يعرفونه. فقال: السلام عليكم قوم حَسُنتْ أخلاقهم، قالوا: وكيف علمت حُسْن أخلاقنا؟ قال: عرفت حُسن أخلاقكم من سوء أخلاق عبيدكم، أي: أنهم يُدلِّلون العبيد ولا يعاقبونهم. وقد ورد عن سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: " خدمت النبي صلى الله عليه وسلم، فما قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء تركته: لم تركته؟ ". ثم يقول الحق سبحانه: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ... } [الحجرات: 3].