الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً }

الحق سبحانه وتعالى يقصّ علينا قصة شوق المسلمين للبيت بعد أن اغتربوا عن مكة مدة طويلة واشتاقوا لأداء العمرة وللطواف بالبيت، ولكن حمية الجاهلية وطيشها وغرورها بقوتها الكاذبة حالتْ دونهم ودون ما يريدون. والحق سبحانه حينما يتكلم في هذه المسألة يتكلم عنها على أنها رؤيا سبقتْ واقع القصة، والرؤيا كما تعلمون ما يراه النائم من أشياء، قد يكون لها واقع وقد لا يكون. والرؤيا تحدَّث القرآن عنها في قصة سيدنا يوسف عليه السلام:يٰأَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [يوسف: 4]. وقد وقف المستشرقون عند هذه الآية، واعترضوا على أسلوب القرآن في تكرار الفعل رأى في هذه الآيةوَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [يوسف: 4]. والمتأمل في القصة وتفاصيلها لا يجد تكراراً، لأن كلَّ فعل منهما له دلالة ومعنى، فالأول قال:رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ.. } [يوسف: 4] ولم يقُلْ: ساجدين. وفي الأخرى قال:رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ... } [يوسف: 4]. وهذا يعني أن الرؤيا الأولى غير الأخرى، الأولى رآهم بلا سجود، رأهم في وضعهم الطبيعي، ثم رآهم في حالة السجود، لأنك لا تعرف الشمس مثلاً ساجدة إلا إذا عرفتها غير ساجدة ثم طرأ عليها السجود. إذن: لابدَّ من تكرار الفعل هنا مرة لغير السجود، ومرة أخرى للسجود، يعني فوجىء بها تسجد، ولو قال: رأيتها ساجدة بدايةً لقُلْنا: كيف؟ لأن السجود لا يكون إلا بحركة ساكن وتحرّك بالسجود. إذن: الحق سبحانه لا يضع لفظاً إلا لغاية ومعنى، ولِلَقْطَة لابدَّ منها. ولما قَصَّ يوسف على أبيه هذه الرؤيا قال:قَالَ يٰبُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً.. } [يوسف: 5] لأن سيدنا يعقوب عليه السلام علم أن هذه الرؤيا تعني علو شأن يوسف على إخوته، وإذا كانوا قد حقدوا عليه لاهتمام أبيه به أو منحه بعض العطف أكثر منهم. فكيف إذا قصَّ عليهم هذه الرؤيا؟ كيف إذا عرفوا أن الملأ الأعلى من المخلوقات سجدوا له؟ كذلك هنا رؤيا { لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقِّ.. } [الفتح: 27] فكأن سيدنا رسول الله قد رأى رؤيا هي { لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ.. } [الفتح: 27]. وقد قصَّ رسول الله هذه الرؤيا على أصحابه، فاطمأنوا إلى دخولهم مكة وآداء العمرة، كذلك لما منعهم سفهاء قريش من دخول مكة تعجبوا واعترضوا على منعهم من الدخول. وسيدنا عمر يقول لسيدنا رسول الله: ألسنا على الحق؟ أليسوا على الباطل؟ قال: بلى، قال: فلِمَ نُعط الدنية في ديننا؟ صحيح هم على الحق وجاءوا على شوق للبيت، لكن إنْ دخلوا مكة غصباً ودون رضا أهلها ستقوم بينهم معركة.

السابقالتالي
2 3