الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ }

قوله تعالى: { فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ.. } [محمد: 4] أي: في ساحة القتال، ودارتْ بينكما رحَى الحرب { فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ.. } [محمد: 4] المصدر ضرب بمعنى: اضربوا رقابهم. والمراد: القتل سواء بضرب الرقاب أو غيره، لكن ذكر ضرب الرقاب لأنه الآكد في القتل { حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ.. } [محمد: 4] يعني: أذهبتم حركتهم وأضعفتموهم عن المقاومة، ومادة ثخن هي نفسها تخن، أي: تماسك وصار ثقيلاً لا يتحرك. نفهم هذا المعنى حينما نتأمل مثلاً ربة البيت وهي تطبح أرزاً باللبن أو بصارة أو تغلي العسل لتصنع منه المربى، فمع الغليان يتبخر الماء وتبقى مادة تخينة ثقيلة، لذلك لا تتحرك مع الغليان، وتكون حرارتها شديدة، نقول: ثخن الشيء أو تخن. { فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ.. } [محمد: 4] يعني: قيّدوهم واربطوهم بالسلاسل والحبال، وأحكموا قيدهم ليكونوا أسرى في أيديكم ولا يفروا. وهذا يعني أنك إذا تمكنتَ منه لا تتركه { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً.. } [محمد: 4]. إما أنْ تُطلقوهم وتُسرحوهم مناً بلا مقابل أو فداءً أي: تأخذون منهم الفدية. لكن متى؟ تطلقون سراحهم بلا مقابل في حالة ما إذا تركوا أسرانا عندهم بلا مقابل، وتأخذون الفدية إذا طلبوا هم أخْذ فدية لأسرانا عندهم. وهذه يسمونها المعاملة بالمثل، وهي ما انتهتْ إليه الأمم المتحدة الآن في مثل هذا الموقف. وقوله سبحانه: { حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا.. } [محمد: 4] الحرب هنا مجاز عن أصحابها وأهلها المشتركين فيها، فالمعنى: افعلوا ذلك حتى تقف رَحَى الحرب، ومعنى { أَوْزَارَهَا.. } [محمد: 4] أي: يضعوا أثقال الحرب، فالحرب ثِقَل على أهلها ومشقة. لذلك قال الله فيها:كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ.. } [البقرة: 216] نعم فأنت في الحرب مُعرَّض لأنْ تفقد مالك، ولأنْ تفقد أهلك، ولأن تفقد حياتك كلها إلى جانب ما فيها من متاعب ومشاق الكَرِّ والفَرِّ والضَّرْب والجَرْح.. إلخ. { وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ.. } [محمد: 4] غلبهم وانتقم منهم بقدرته ودون قتال منكم، فهذا أمر هيِّن على الله، كما وقع للأمم السابقة أهلكهم الله بعذاب من عنده وببأسه الذي لا يُردُّ عن القوم الكافرين، فهذه ليستْ عجيبة، بل واقع يشهد به التاريخ. واقرأ:فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا.. } [العنكبوت: 40]. إذن: لماذا شُرع القتال وهو مكروه وفيه مشقة؟ قال تعالى:قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } [التوبة: 14]. فشرع القتال لإظهار قوة المؤمنين، ثم لاختبار إيمانهم وثباتهم على الحق، وتمييز المؤمنين من المنافقين { وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ.. } [محمد: 4]. أي: يبلو المؤمنين بالكافرين والكافرين بالمؤمنين، ليمحص إيمان المؤمن لأنه صاحبُ رسالة وصاحبُ منهج، وسيحمل مسئولية الدعوة يسيح بها في كل أنحاء الأرض، فكان لابُدَّ من تمحيصه ليظهر الغَثَّ والثمين.

السابقالتالي
2 3