الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَى ٱلشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ } * { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ ٱلأَمْرِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ }

الحديث هنا عن المنافقين، وقد بيَّنا أن النفاق لم يظهر في مكة رغم عدائها للدين، لكنه ظهر في المدينة التي احتضنته، ومنها انطلق للعالم كله، والسبب في ذلك أن الضعيف لا يُنَافَق إنما يُنَافَق القوي، فلما قوي المسلمون في المدينة وُجد بينهم النفاق. يقول تعالى عنهم: { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ.. } [محمد: 25] يعني: كانوا مؤمنين باللسان إنما قلوبهم ليستْ مؤمنة { مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَى.. } [محمد: 25] ظهر لهم الحق والرشاد والصراط المستقيم الذي جاء به محمد. { ٱلشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ.. } [محمد: 25] سول لهم يعني: هيأ لهم وزيَّن لهم وحسن في نظرهم هذا المسلك المنحرف عن الحق فسوَّل بمعنى وسوس، كما قال تعالى حكاية عنه:قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الأعراف: 16] وقال:قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ص: 82]. ثم يلزم حدوده فيقولإِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [ص: 83] فهؤلاء لا سلطان لي عليهم ولا مدخل لي إليهم. والعجيب أن يكشف إبليس عن خططه في الإغواء، فيقول:لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الأعراف: 16] يعني: في طريق الطاعة ليفسدها عليك، لذلك قلنا: الشيطان يأتي المسجد ولا يأتي الخمارة. وقال:ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ.. } [الأعراف: 17] من كل ناحية، وبأيّ شكل ومن أيّ باب يجد فيه ضعفاً منك يأتيك من باب المال وحب التملك، أو من باب النساء، أو من باب الشهرة وحب الظهور.. إلخ فلكل واحد من الناس مفتاح يدخل إليه من خلاله. ومن رحمة الله بنا أن علَّمنا كيف نتحصّن منه، فقال تعالى:وَإِماَّ يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ.. } [الأعراف: 200] لأنك لا تقدر على ردِّه بنفسك فاستعن عليه بمَنْ خلقه، فإذا استعذت بالله منه خنس وتضاءل، لذلك سماه الوسواس الخناس. أما إنْ حاولت ردّه عنك بنفسك فإن المعركة بينكما ستطول، لأنه أقوى منك وصاحب خبرة في الغواية والإضلال يُلوّن لك الوسائل ويلف حولك الحبال من حيث لا تدري حتى يُوقعك في مصائده. ومن غباء الشيطان أنْ يكشف لنا خططه في الإغواء، فالذي يدبر لك خطة ليوقعك بها لا يكشف عنها، لكنه أراد من ذلك أنْ يقيم الحجة على كل مَنْ طاوعه وسمع كلامه، لذلك سيقول بعد ذلك:وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوۤاْ أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ.. } [إبراهيم: 22]. والإنسان يستطيع أن يعرف مصدر الوسوسة، أهي من نفسه أم من الشيطان؟ فالشيطان يريدك عاصياً على أيّ لون وبأيِّ طريقة، فإذا لم يفلح معك من باب المال جاءك من باب الشهرة، فإنْ لم يفلح جاءك من باب النساء، وهكذا حتى يوقعك.

السابقالتالي
2