الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْفَاسِقُونَ }

الخطاب هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، الحق سبحانه يُسلِّيه ويثبته ليتحمل الإيذاء من الكافرين، فليس هو بدعاً في ذلك، فقد سبقه كثير من إخوانه الرسل، فليصبر محمد كما صبروا. تعرفون أن سيدنا رسول الله تعرَّض لكثير من أذى قومه، آذوه بالقول فقالوا: ساحر وشاعر ومجنون وكاهن وكذاب. ثم تعدّى الإيذاء إلى الإيذاء بالفعل، فاعتدوا عليه في الطائف حتى أدموا قدميْه، وكُسرت رباعيته في أُحد، ورموا على ظهره سلى البعير وهو يصلي. آذوه في نفسه، وآذوه في أهله وفيمن آمن معه، بل تآمروا على قتله، وضيَّقوا عليه حتى اضطروه لترك مكة والهجرة إلى المدينة، والنبي صلى الله عليه وسلم يتحمل ذلك كله لكنه بشر ويشقّ عليه ذلك. فأراد الحق سبحانه أنْ يضع أمامه أسوة ونموذجاً لمَنْ صبر من الرسل السابقين { فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ.. } [الأحقاف: 35]. فسيدنا إبراهيم عليه السلام وصل الأمر به إلى أنْ أُلقِيَ في النار، ومع ذلك لم يُفقده الموقف ثقته بربه، بدليل أن جبريل عليه السلام لما عرض عليه أنْ يطفىء هذه النار قال له: أما إليك فلا فجاء الأمر من السماءيٰنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَٰماً عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ } [الأنبياء: 69]. في صِغَره ابتُلي في نفسه، وفي كبره ابتُلي بذبح ولده الوحيد، وصبر على الابتلاء ففدى الله الذبيح إسماعيل، وزاده على ذلك بولد آخر هو سيدنا إسحاق ومن بعده سيدنا يعقوب، وكلهم كانوا أنبياء. وجاء هذا العطاء نتيجة التسليم لله في قضائه وقدره والرضا به. ولنا في أبي الأنبياء أُسوة في الرضا بالقضاء، وأنْ نربي أجيالنا على ذلك، لأن التسليم والرضا بقضاء الله أول أسباب رفع القضاء، فلا يُرفع قضاء حتى يرضى صاحبه به، وإلا ظلَّ البلاء نازلاً به. والذين يطول عليهم قضاء الله هم سبب ذلك، لأنهم في الواقع معترضون، ولو رضُوا لرفعه الله عنهم، مثل الأب الذي يضرب ولده على خطأ ارتكبه، فإنْ خضع وانصاع لوالده تركه، بل ويحنو عليه ويرضيه. فإن اعترض زاده ضرباً. إذن: الله تعالى يريد أنْ يُربي عبده بالابتلاء، لذلك ورد في الحديث القدسي: " مَنْ رضي بقدري أعطيته على قَدْري ". كذلك من أولي العزم سيدنا نوح عليه السلام وظل يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، ومع ذلك ما آمن معه إلا قليل وكانوا يضربونه حتى يُغمى عليه. انظر إلى الابتلاءات التي مر بها سيدنا يوسف، ففي صِغَره أُلقيَ في الجُبِّ، وبيع رقيقاً، وفي كبره ابتُليَ بامرأة العزيز وألقي في السجن، لكنه صبر فمكَّن الله لهوَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ.. }

السابقالتالي
2