الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوۤاْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } * { قَالُواْ يٰقَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ }

ينتقل السياق بنا إلى مجال آخر من مجالات الدعوة، فبعد أنْ حدَّثنا عن موقف الإنس وما كان منهم من تصديق لرسول الله أو تكذيب يُحدِّثنا عن الجن، وهم الجنس المقابل للإنس في الدعوة. حيث أُرسل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين الإنس والجن، إذن: الجن جنس مكلّف مثلنا، لكنه غيب عنا فلا نراهإِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ.. } [الأعراف: 27]. والجن له خِفَّة في الحركة وتغلغل في الأشياء لطبيعته النارية، لذلك لو أشعلت النار خلف هذا الجدار بعد لحظات تُحس بها هنا. إذن: صدِّق أنه من نار، وأنه يتغلغل خلال الأشياء، وأن له طبيعة غير طبيعة الآدمي. الحق سبحانه يريد أنْ يُبيِّن لنا أن الجن وإنْ كان غائباً عنَّا إلا أنه مثلنا في التكليف وأنه مثلنا مُخاطب بالقرآن، ومنه المؤمن والكافر والطائع والعاصي. ونحن نعلم قصة الصراع بين الجن والإنسان، منذ خلق آدم عليه السلام وأمر إبليس بالسجود له فأبى واستكبر، وكانت حجته أنه خُلِق من نار، وآدم خُلِق من طين، فكيف يسجد له وهو أفضل منه على حَدِّ قوله:خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [الاعراف: 12]. صحيح أن آدم هو أيضاً وقع في المعصية، لكن فرْقٌ كبير بين معصية آدم ومعصية إبليس، آدم عصى ربه حين أكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها، عصى عن غفلة وتغلب النفس ووسوسة الشيطان. ثم لما عرف معصيته اعترف بها وتاب عنها واعترف بأنه أخطأ في حَقِّ ربه وظلم نفسهقَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } [الأعراف: 23] وقال في البقرة:فَتَلَقَّىٰ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَٰتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } [البقرة: 37]. إذن: قُبلت توبة آدم لأنه لم يرد حكم الله، أما إبليس فردّ الحكم ولم يخضع له فطُرد من رحمة الله وأُبْعد، وفرْق بين أنْ تعصي الحكم وأنت معترف به، مُصدِّق بأنه من الله، وبين أنْ ترده. لذلك نقول هذا الكلام لمن يجادل مثلاً في مسائل من الدين الحكم فيها واضح، كالربا مثلاً أو إطلاق اللحية فيقول: التعامل بالربا الآن حلال، نقول لهذا: أنت بهذا القول ترد حكم الله في الربا، والأسلم لك أن تقول أنه حرام لكن ظروفي تجبرني عليه مثلاً. ثم لك أنْ تقتدي بأبيك آدم فتتوب، تستغفر لعل الله يغفر لك، بدل أنْ تعاند ربك في حكمه، وهذه لا تقدر عليها، وتذكَّر قول الشيطانوَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ ٱللَّهِ.. } [النساء: 119]. فاحذر هذه المسألة، وأنت تعلم أن إبليس كان في يوم من الأيام طاووس الملائكة فلما عاند واستكبر وردَّ حكم الله جعله ملعوناً مطروداً من رحمة الله.

السابقالتالي
2 3 4