الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَحَاقَ بِهم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }

هذا خطاب لقريش ولَفْتٌ لهم أن هؤلاء المعذّبين من قوم عاد كانوا أقوى منكم وأحسن أثاثاً ورئياً، وأكثر منكم أموالاً، وأثاروا الأرض وعمروها، ولهم حضارة من أعظم حضارات الدنيا.أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ * ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ } [الفجر: 6-8]. ومع ذلك كان هذا مصيرهم فلم تُغنْ عنهم قوتهم، ولم تدفع عنهم الحضارة شيئاً من عذاب الله وأنتم لستُم أقوى منهم، فاحذروا ما وقعوا فيه من تكذيب الرسول، واحذروا أنْ يُصيبكم ما أصابهم. فقوله تعالى: { وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ.. } [الأحقاف: 26] يعني: مكنَّا قوم عاد. والتمكين يعني: أعطيناهم القوة والاستطاعة، وبسْطنا لهم في أسباب الدنيا حتى عملوا ما لم يعمله غيرهم من الأمم. { فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ.. } [الأحقاف: 26] إن هنا نافية كما في قوله تعالى:مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ ٱللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ.. } [المجادلة: 2] ما أمهاتهم إلا اللائي ولدْنَهم، وهنا مكنَّا لهم ما لم نُمكِّن لكم، وبسطنا لهم ما لم نبسط لكم من الأسباب. ثم { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ.. } [الأحقاف: 26]. السمع والأبصار والأفئدة هي وسائل الإدراك الرئيسية في الإنسان، وقد وردتْ في كُلِّ مواضعها في القرآن بهذه الصيغة: السمع مفرد، والأبصار والأفئدة جمع. وهذه من دقائق التعبير في القرآن، فالسمع لا تُجمع لأن الصوت يسمعه الجميع كأننا في السماع واحد، ترى مصدر الصوت أو لا تراه لكن تسمعه. أما البصر فيختلف من شخص لآخر، فواحد يرى والآخر لا يرى، واحد نظره حَادّ، وآخر نظره كليل، وآخر أعور. إذن: الأبصار مختلفة، كذلك تختلف الأفئدة في استقبال الأشياء. وقد ثبت في علم وظائف الأعضاء أن الأذن هي أول جهاز يعمل في الطفل بعد ولادته مباشرة، أما العين فترى بعد ثلاثة إلى عشرة أيام، ثم بعد ذلك تعمل الأفئدة. إذن: هذا هو الترتيب الطبيعي لعمل الجوارح التي هي وسائل الإدراك، ولأهمية السمع جعله اللهُ أول هذه الجوارح عملاً، فهو أول ما يستقبل من مُدركات بعد الولادة، وهو الحاسَّة التي لا تنتهي مهمتها حتى في النوم. فالعين مثلاً لا ترى أثناء النوم، أما الأذن فتسمع لأنها وسيلةُ الاستدعاء للنائم، فلا بدّ أنْ تكون مستعدة دائماً للتلقَّي والسماع. وهذه المسألة رأيناها في قصة أهل الكهف في قوله تعالى:فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي ٱلْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً } [الكهف: 11] لأن الكهف في صحراء يكثر بها الأصوات المزعجة ليلاً بالإضافة إلى أصوات الرعد والبرق والريح، فلو كانت الأذنُ على طبيعتها لأزعجتْهم هذه الأصواتُ، لكن ضرب الله عليها حتى لا تسمع.

السابقالتالي
2 3 4 5 6