الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَٰلِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَٰلُهُ ثَلٰثُونَ شَهْراً حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَٰلِحاً تَرْضَٰهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيۤ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ }

قوله تعالى: { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَٰلِدَيْهِ.. } [الأحقاف: 15] أمرناه بذلك وألزمناه به، والوصية أن تطلب ممَّنْ توصيه عملاً خيَِّراً يفيده في حياته وآخرته، ويعينه على آداء مهمته، لذلك تجد معظم الوصايا بالأمور المهمة تأتي في أخريات العمر، وكأنه يقول لأهله ولمن يوصيه: الحقوا خذوا مني نتيجة تجاربي في الحياة. وهذه المادة أتت في القرآن بلفظ: وصَّى وأوصى. وصى تفيد تكرار الفعل، كما في قوله تعالى: { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَٰلِدَيْهِ.. } [الأحقاف: 15] وفي قوله تعالى:وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ.. } [البقرة: 132]. أما أوصى فهي للتعدية، كما في قوله تعالى على لسان المسيح عليه السلام:وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً } [مريم: 31] فهي مثل أنزل ونزَّل، وأنزل أي مرة واحدة، ونزَّل يعني تباعاً. وكلمة { ٱلإِنسَانَ.. } [الأحقاف: 15] وهو الموصَّى تفيد الإطلاق والعموم أي الإنسان على إطلاقه من آدم إلى قيام الساعة في اسم جنس تقابل في الخلق المختار كلمة الجن، نقول: الإنس والجن، الإنس يعني الإنسان من الأُنس. يعني: يأنس بعضنا إلى بعض. أما الجن فلا أنْسَ بيننا وبينه، لأننا لا نراهم ولا نتفق معهم في الطبيعة، قال تعالى:إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ.. } [الأعراف: 27]. إذن: هذه الوصية مُوجّهة من الحق سبحانه للناس كافة وللإنسان عموماً، فتشمل المؤمن والكافر، والكبير المكلف والطفل دون التكليف، فإنْ فعل بالوصية يُثاب عليها، وإنْ تركها لا يُعاقب. يمكن أنْ نقيس هذه المسألة على الصلاة، ففي الحديث الشريف قال صلى الله عليه وسلم: " مُروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر ". إذن: الأمر منكم وكذلك العقوبة منكم أيضاً، لأنه ما يزال دون سِنِّ التكليف الشرعي. والصلاة في هذه السنِّ تدريب له وتعوّد ليرتاد ويألف الصلاة منذ صِغَره فيشب عليها، حتى إذا بلغ التكليف كانت سهلة عليه ومعتادة عنده. وكلمة الوالدين أي: الأب والأم، وهما السبب المباشر للوجود، لأن هناك سبباً غير مباشر، وهو الوجود الأعلى الذي أوجد آدم وحواء، وهذا الوجود كان عن عدم، أما وجودنا نحن بالتناسل، فكان عن سبب وهو الوالدان. ولبقاء النوع وعمارة الأرض ربط الله تعالى - ولحكمة عملية - الإنجابَ بأقوى غرائز الإنسان وأقوى لذة عنده، كيف؟ قالوا: أنت حين تنظر إلى منظر جميل تستمتع به عينُك أو تشمّ رائحة طيبة يستمتع بها أنفُك. كذلك حين تأكل أكلة مُحبّبة إليك. إذن: كلّ جارحة من جوارحك لها متعة خاصة، أما العملية الجنسية فتُحدث لذة ومتعة تستوعب الجوارح كلها، وتشارك فيها الجوارح كلها، لذلك شرع الله الغُسْلَ بعدها لاشتراك جميع الجوارح في هذه العملية، وأيضاً لأنك تغفل في هذه الأثناء عن الله فاستوجب ذلك الغسل.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10