الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَٰتِنَا شَيْئاً ٱتَّخَذَهَا هُزُواً أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ }

لأنه بعد أنْ أصرَّ على الإعراض عن آيات الله، وبعد أنِ استكبر عليها لا بدّ أنْ يعود في لحظة ما إلى نفسه ويُعمل عقله فيما يسمع فيصله بعض العلم عن آيات الله { وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَٰتِنَا شَيْئاً ٱتَّخَذَهَا هُزُواً.. } [الجاثية: 9] جعلها مجالاً للسخرية والاستهزاء { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [الجاثية: 9] وقبل ذلك بشَّره رب العزة بأن له عذاباً أليماً. وهذه ألوان مختلفة من العذاب والعياذ بالله، فالعذاب الأليم الذي يُؤلم الحواسَّ ويُوجع وتتألم له المادة والأعضاء، وهذا غير العذاب المهين، فالجهة كما يقولون مُنفكَّة، والعذاب المهين هو عذاب النفس حيث يُهينها ويُذلّها ويهدم كرامتها، لأن بعض الناس قد لا يُؤلمه الضرب الحسِّي ولكن يُؤلمه أنْ تجرح كرامته ولو بكلمة. وهناك في آيات أخرى عذابٍ عظيم يعني: مبالغ فيه، وهكذا جمع عليهم الحق سبحانه كلَّ ألوان العذاب جزاء استكبارهم ولددهم وعنادهم في آيات الله، وهي أوضح من أنْ ينكرها منكر. وهنا استخدم المصدر { هُزُواً } [الجاثية: 9] ليدل على المبالغ، وأن الاستهزاء أصبح صفةً لازمة له لاصقة فيه كما نقول: فلان عادل، وفلان عدل كأنك جعلْتَه هو والعدل شيئاً واحداً. وفي الآية دليلٌ على أن الإنسان إذا تجرَّد للحق وأخْلى فكره ثم فكَّر بعقله في الأشياء بموضوعية لا بدَّ أنْ يصلَ إلى الخيط الذي يُوصِّله إلى الحق، فالعودة الصادقة إلى النفس تُؤدي إلى الحق. لذلك الحق سبحانه يُعلِّم الناس كيفية التفكير السليم وكيفية البحث عن الحق، فيقول:إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ.. } [سبأ: 46] يعني: اتركوا تفكير الجماهير وتعصُّبهم لأنه غير مُنظم، يؤدي إلى فوضى يتوه فيها الحق. والفكر عمل العقل، والعقل هو السلطان الذي يعصمك من الآراء الضالة ويُرشدك ويأخذ بيدك إلى الحق، والعقل حتى في اسمه من العقال الذي يعقل الدابة حتى لا تشرد من صاحبها، كذلك العقل يعقل صاحبه. إذن: هؤلاء لما عادوا إلى أنفسهم واستعملوا عقولهم عقلوا ووصلوا إلى شيء من الحق، لكن كبرياءهم وعنادهم منعهم من اتباعه، وأدلُّ شيء على ذلك قول بعضهم لبعض:لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [فصلت: 26]. ولولا أنهم واثقون من صدق القرآن وتأثيره في النفوس ما قالوا هذا الكلام، لكن أسلوب القرآن أسَرهم وتغلغل في أعماقهم، ولو تركوا أنفسهم على طبيعتها لآمنوا، لكنهم استقبلوا القرآن بنفوس تملؤها نوازع الشر وحُب الانفلات من قيود المنهج الحق الذي أتى به هذا القرآن.