الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ فَمَا ٱخْتَلَفُوۤاْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }

قد يسأل سائل: ما مناسبة هذا الحديث عن اليهود هنا؟ قالوا: يريد الحق سبحانه أنْ يقول: اذكر يا محمد أن أمتك قريش وغيرها عندهم شيء من طباع اليهود، وفعلوا كثيراً من أفعالهم، فأنزلَ الله بهم مثل ما أنزل بسابقيهم. قال تعالى:أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ.. } [العنكبوت: 67]. فكان أيّ واحد يخرج فقط عن مكة يخطفونه ويغتالونه ويأخذون ماله ومتاعه، لكن أهل مكة لم يجرؤوا على هذا لمكانتهم من البيت، وحرصاً على سلامة قوافلهم التجارية التي تسافر بين اليمن والشام وتمر بمعظم القبائل. ثم إن خدمة قريش للبيت وزواره أمَّنت تجارتهم وحمتْ قوافلهم، ولم لا وهم يستقبلون عندهم في مكة ضيوفَ الرحمن ويقومون على خدمتهم. لذلك نجد أن هذه المسألة هي الرابط بين سورة الفيل وسورة قريش، اقرأ:أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ } [الفيل: 1-5]. فلو قلت: لماذا ردّ الله أصحابَ الفيل وجعلهم كعصف مأكول نجد الجواب في أول سورة قريش:لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيْفِ } [قريش: 1-2] فلو هُدم البيت لهدمتْ معه مكانة قريش، ولضاعت مهابتها من قلوب أهل الجزيرة العربية، فلم يتمكَّنوا من رحلة الشتاء والصيف. فكأن الحق سبحانه يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: أنا عملتُ مع هؤلاء كذا وكذا، ودافعتُ عنهم، وجعلتُ لهم مكانة ومنزلة، ومع ذلك يقفون من دعوتك موقفَ العداء، لأنك ستسلبهم السيادة المتجبرة والسيادة الطاغية التي اعتادوا عليها. فقوله تعالى: { وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ.. } [الجاثية: 17] أي: دلائل وعلامات في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، فما ذهب اليهود إلى مدينة رسول الله إلا لعلمهم بقدومه، وعلمهم بصفاته وبزمن بعثته، وكانوا يفتخرون بقدومه ويستفتحون به على الكفار والوثنيين. يقولون: لقد أظلَّ زمانُ نبيٍّ من العرب، سنتبعه ونقتلكم به قتلَ عاد وإرم، فلما بُعث رسول الله صادموه وكفروا بدعوته، كما قال تعالى:وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ.. } [البقرة: 89]. وقال تعالى عن معرفتهم لرسول الله:يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ.. } [الأنعام: 20]. لذلك رأينا عبد الله بن سلام وهو أحد أحبار اليهود، يقول: والله لقد عرفتُه حين رأيته كمعرفتي لابني ومعرفتي لمحمد أشدّ، ومع هذه المعرفة أنكروا رسالته وكفروا به، وأغفلوا ما عندهم من علاماته ودلائل نبوته.وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً.. } [النمل: 14]. لذلك لما هدى اللهُ عبد الله بن سلام للإسلام ذهب إلى سيدنا رسول الله وقال له: يا رسول الله لقد شرح الله صدري للإسلام لكني أخشى إنْ أسلمت أنْ يذمني اليهود ويتهموني عندما يعلمون ذلك فاسألهم عني يا رسول الله قبل أنْ يعلموا بإسلامي.

السابقالتالي
2