الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى ٱلْعَالَمينَ }

هذه تسلية لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت عانى فيه أشد المعاناة من المعاصرين له من صناديد الكفر عناداً وجحوداً واستكباراً وإيذاءً بالقول وبالفعل وبالمكر والتآمر، فلم يتركوا شيئاً يؤذي رسول الله إلا فعلوه. لذلك يُسلِّيه ربه يقول له: لستَ بدْعاً في ذلك، فقد واجه إخوانك الأنبياء السابقون مثل هذا العنت والتكذيب، فخُذْ من تاريخ الدعوة قبلك سَلْوى، لأنك جئتهم بالحق وهم يريدون الباطل، فلا بدَّ أنْ يصادموك. يقول تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱلْكِتَابَ.. } [الجاثية: 16] أي: التوراة كما أنزل عليك القرآن { وَٱلْحُكْمَ.. } [الجاثية: 16] أي: مقاييس العدل التي بها تستقيم أمور الخلق. والحكم في بني إسرائيل مثل السُّنة عندنا مثلاً لذلك خاطب الحق سبحانه نساء النبي بقوله:وَٱذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىٰ فِي بُيُوتِكُـنَّ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ.. } [الأحزاب: 34] أي: القرآنوَٱلْحِكْـمَةِ } أي: أحاديث رسول الله. { وَٱلنُّبُوَّةَ.. } [الجاثية: 16] حيث جعل الحق سبحانه النبوة في بني إسرائيل أكثر من أيِّ أمة أخرى، حتى إنهم ليفتخرون على باقي الأمم بهذه المسألة، والواقع أنها ليستْ مجالاً للفخر بل دلتْ على عيب فيهم ومأخذ يُؤخذ عليهم، لأن كثرة الأنبياء تدل على فساد الخلق، فالأمة لا تحتاج إلى رسول جديد إلا إذا استشرى فيها الفساد. إذن: كثرة الأنبياء دلتْ دلتْ على كثرة الفساد فيهم. إذن: كثرة الأنبياء فيهم ليست شهادة لهم، بل عليهم، لذلك وجدناهم يكثرون من قتْل الأنبياء بما لم يحدث في أي أمة أخرى، لذلك وجدناهم يتآمرون لقتل محمد هو الآخر لكن هيهات. الحق سبحانه وتعالى بيَّن لهم أن هذه المسألة خاصة بكم أنتم ومقتصرة على أنبيائكم فقط فحبسها عليهم، فقال تعالى:فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ ٱللَّهِ مِن قَبْلُ.. } [البقرة: 91] يعني: هذا الكلام كان زمان، أما الآن فلا ولن تتمكنوا منه أبداً. وقوله تعالى: { وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ.. } [الجاثية: 16] ومن هذه الطيبات المنّ والسّلْوى التي أنزلها الله عليهم في فترة التيه، حيث لا استقرار ولا أرض تُزرع، فأنزل الله عليهم المنّ وهو سائلٌ يشبه العسل ينزل على أوراق الشجر حبيبات شفافة تتساقط في الصباح، طعمه حلو كأنه خليط من العسل والقشدة. أما السلوى فهو طائر مهاجر مثل السمان ويتوافر فيه البروتين، إذن: من المن والسلوى أعطاهم الغذاء الكامل، ومع ذلك غلبت عليهم ماديتهم، وأرادوا أنْ يأكلوا مما تحت أيديهم مما تُخرج الأرض، يقولون إن هذا الطعام الجاهز قد لا يأتي، فقد لا ينزل المنّ ولا يأتيهم السلوى. لذلك قالوا لموسى:لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا.. } [البقرة: 61]. بل وصلتْ بهم مادّيتهم إلى أن طلبوا من موسى عليه السلام رؤية الحق سبحانه فقالوا:لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً.. } [البقرة: 55]. وقوله سبحانه: { وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى ٱلْعَالَمينَ } [الجاثية: 16] قالوا: عالَمِي زمانهم، ليست على إطلاقها، لأن بني إسرائيل عاشوا في زمن ساد فيه الكفر والوثنية، وكانوا هم أهلَ كتاب يؤمنون بالله، فكانوا هم أفضلَ ممَّنْ عاصرهم.