الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }

كلمة قُلْ دلَّتْ على دقَّة رسول الله في البلاغ عن الله، وأنه صلى الله عليه وسلم لا يأتي بشيء من عند نفسه ولا يبلغ كلام الله بالمعنى إنما بالحرف، وإلا فقد كان بإمكانه في قوله تعالى:قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص: 1] أنْ يقول للناس: الله أحد. وأنت مثلاً حين ترسل ولدك إلى عمه وتقول له: قُلْ لعمِّك: أبي يريدك، فالولد يذهب ويقول لعمه: أبي يريدك، فالمعنى وصل بهذا اللفظ وتم التعبير عنه بدون قُلْ. أما رسول الله فينطق بما نطق الله به، ولا يتدخل في نصِّ ما أُلقي إليه، كأنه يقول لنا: هذا الكلام ليس من عندي إنما هو كلام الله يبلغه كما سمعه. والعجيب أنْ نسمع مَنْ ينادي بحذف هذه الكلمة من المصحف ويدَّعي أنها لا تضيف شيئاً للمعنى: ونقول له: يكفي أن الله نطق بها ونطق بها رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم إن لها مهمةً كما بيَّنا. { قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ.. } [الجاثية: 14] أي: يصفحوا ويتجاوزوا ولا يؤاخذوهم على التفاهات ما دام أنها لا تتجاوز القول إلى الفعل. { لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ.. } [الجاثية: 14] أي: الذين لا يخافون أيام الله ولا يعتبرون بها ولا يعملون لها حساباً، والرجاء نوع من الطلب، وفيه معنى تمنٍّ والطمع في حصول ما ترجوه، فالرجاء طلب الشيء المتوقَّع الحدوث. والممكن على خلاف التمنِّي، وهو طلب المحال البعيد المنال، كما قال الشاعر:
أَلاَ لَيْتَ الشَّبَابَ يَعُودُ يَوْماً   فَأُخبرُه بمَا فَعَلَ المشيبُ
أما الرجاء فهو مظنة أنْ يتحقق، تقول: أرجو أنْ أُوفق أو أسافر. ومعنى { أَيَّامَ ٱللَّهِ.. } [الجاثية: 14] كما نقول مثلاً أيام العرب يعني: وقائعهم والأحداث الكبار التي مرَّتْ بهم، فأيام الله يعني وقائعه بأعدائه، فأيام الله على المؤمنين نَصْره لهم وعلى الكافرين هزيمتهم، فهم لا يقفون عند هذه الأحداث ولا يتأملونها ولا يأخذون منها عبرةً ويمرُّون عليها مَرَّ الكرام أو مرورَ الغافل عن حكم الأشياء، وهؤلاء هم المنافقون. ولهذه الآية قصة، ففي غزوة بني المصطلق كان هناك بئر يشربون منه اسمه المريسيع، وعلى هذا البئر اجتمع غلامٌ لعمر بن الخطاب وغلام لعبد الله بن أُبيٍّ رأس المنافقين، فغلام عمر منع الآخر، وقال: لا حتى أسقي لرسول الله أولاً، فقال الآخر: أفرغتَ؟ قال: لا، لا يزال دَلْو أبي بكر، ثم دَلْو عمر، قال: هذا لعلمه أنه منافق. فأبطأ العبد على عبد الله بن أُبيٍّ فقال: ما أبطأك؟ قال: مولىً لعمر بن الخطاب فعل كذا وكذا، فهزّ رأسه هزَّة المنافق وقال: إنّا وإياهم كما قال القائل: سَمِّنْ كلبك يأكلك، قال هذه الكلمة ليشفى بها ما في صدره، ووصلتْ هذه الكلمة إلى عمر فأخذ سيفه وأراد أنْ يقتله فأنزل الله هذه الآية: { قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ.

السابقالتالي
2 3 4