الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأيَٰتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }

الحق سبحانه وتعالى ينقلنا من تسخير البحر إلى تسخير السماوات والأرض، فهي مسخَّرة للإنسان منذ خلقها الله، لكن لم يعلم الإنسان وجوه هذا التسخير مرة واحدة، إنما يعلمها بمرور الزمن وتطوُّر العلوم. كما قال سبحانه:سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ.. } [فصلت: 53]. فأنت مثلاً حين تقرأ قوله تعالى في الفُلْكوَلَهُ ٱلْجَوَارِ ٱلْمُنشَئَاتُ فِي ٱلْبَحْرِ كَٱلأَعْلاَمِ } [الرحمن: 24] لا بد أنْ تُعمِلَ العقل وتسأل كما سألنا: متى عرف الناس السفن ذات الأدوار؟ فكلمة المنشآت تدل على البناء، وكالأعلام يعني: عالية ومرتفعة كالجبال، قالوا: عرف الإنسانُ السفنَ ذات الأدوار في أواخر القرن الثامن عشر، وكانت قبل ذلك عبارةً عن سطح لا شيءَ عليه. فمَنْ أخبر سيدنا رسول الله بأن السفن سيكون منها منشآت كالأعلام، كذلك في قوله تعالى:وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } [الزخرف: 33]. والمعارج جمع معراج، وهو بلغة اليوم الأسنسير والحضارة الحديثة لم تعرف الأسنسير إلا في أواخر القرن العشرين، إذن: هذه مظاهر لإعجاز القرآن وصِدْقه وصِدْق المبلِّغ للقرآن، فصدق اللهُ وصدق رسوله. وهذا يدلُّ على أن هذه المستحدثات موجودة في علمه تعالى ولها ماكيت قبل أنْ يصل إليها فكر البشر، والله يظهرها لعباده حسْب حاجتهم ومع مرور الزمن وتطور العلوم، وهذا معنىسَنُرِيهِمْ.. } [فصلت: 53]. قوله تعالى: { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ.. } [الجاثية: 13] قلنا: كلٌّ من السماوات والأرض ظَرْف لأشياء كثيرة، منها ما نعلمه، ومنها ما لم نتوصل إليه حتى الآن، فالسماء ننظر إليها من جهة العلو، ولا نرى من مخلوقات الله فيها إلا الشمس والقمر والنجوم والسحاب، وهذا كله في السماء الدنيا. لذلك قال سبحانه:وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ.. } [فصلت: 12] أما السماوات السبع فشيء آخر لا نعرف عنه شيئاً، ويكفي أنْ تعرف أن بينك وبين الشمس ثمانيَ دقائق ضوئية، وهناك مخلوقات بينك وبينها مائة سنة ضوئية اضربها في 365 يوماً في 24 ساعة في 60 دقيقة في سرعة الضوء. إذن: فوقك عالم آخر فوق ما يتصوَّره عقلك، لذلك قال تعالى:وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَٰهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } [الذاريات: 47] بأيد، أي بقوة. فيكفي أنْ تتأمل في مجال تسخير الكون لك أنْ تنظر إلى الشمس، وكيف سخَّرها الخالق لك فتعطيك النور والدفء والطاقة والأشعة المختلفة دون أنْ تبذل في سبيل ذلك شيئاً، ودون صيانة، ودون وقود، ودون أنْ تصلَ إليها أصلاً. فهي تعمل في خدمتك منذ خلقها الله وإلى أنْ تقوم الساعة لا تحتاج منك إلى شيء، فقط عليك أنْ تستفيد منها، وأنْ تفكر في طبيعتها وكيفية استغلالها فيما ينفعك، ومثلها القمر يعطيك النور الحالم الهادئ، وبه نهتدي في ظلمة الليل:

السابقالتالي
2 3 4