الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ } * { فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } * { يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ } * { كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ }

الجمع بين المتقابلات من أساليب الأداء القرآني، لأن التقابل يُزيد الصورة وضوحاً. وقد فَطِن الشاعر العربي إلى هذا المعنى فقال:
فَالوَجْهُ مثْلُ الصُّبْح مُبْيضٌ   وَالشَّعْر مثْل الليْل مُسْودّ
ضِدّانِ لمَّا استجْمعَا حَسُنَا   وَالضُّد يظهِرُ حُسْنَهُ الضدّ
ومن ذلك قوله تعالى:إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [الانفطار: 13-14] وعليك أنت أنْ تعقد مقارنة وأنْ تختار، لذلك الحق سبحانه بعد أنْ حدثنا عن مصير المجرمين وما أعدَّه لهم من ألوان العذاب يذكر سبحانه مصير المتقين وما أعدَّه لهم من النعيم. { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ } [الدخان: 51] والمتقي هو الذي يجعل بينه وبين صفات جلال الله وقايةَ صفات الجلال، مثل: القهار الجبار المنتقم ذي البطش الشديد، فاجعل أيها المؤمن بينك وبين هذه الصفات من الله وقايةً، لأنك لا تحتمل صفات الجلال من الله. لذلك قال تعالىيٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ.. } [البقرة: 278] وقال:فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ.. } [البقرة: 24] لأنها جندي من جنود صفات القهر والجلال. إذن: هما يُؤدِّيان نفس المعنى. وقوله { فِي مَقَامٍ أَمِينٍ } [الدخان: 51] المقام هو مكان الإقامة أو المسكن الذي تسكن فيه وله أجزاء، تقعد في جزء وتنام في جزء وهكذا، لكن من أهم مُقوِّمات المسكن أنْ يكون آمناً تأمن فيه على نفسك ومالك. لذلك حينما نفكر في إقامة مدينة سكنية لا بدَّ أنْ نوفر لها أولاً مقوِّمات الأمان لساكنيها، وأول هذه المقوِّمات أنْ تكونَ بعيدةً عن مراتع الوحوش والحيوانات المفترسة، كذلك آمناً من السرقة أو الخائن، وهو البشر الذي يتغلغل فيك في بيتك، ويزعجك بحيث إذا كنت نائماً أو قاعداً قمتَ ووقفتَ له. فالمكان الأمين أو المقام الأمين هو الذي تأمن فيه من كل شيء إذن: الأمن في المَقام، فوق الأمن في المُقام بالضم. لذلك سيدنا إبراهيم دعا ربهرَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً.. } [البقرة: 126] يعني: أمناً عاماً كما يشترط في أيِّ بلد. فلما أعطاه هذه دعا بالأمن الخاص، فقال:رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ ءَامِناً.. } [إبراهيم: 35] ثم أعطاه الحق سبحانه آمنا فوق هذا كله، وهو حرمة البيت الحرام فقال:وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً.. } [آل عمران: 97] حتى أن الرجل كان يَلْقى فيه قاتلَ أبيه فلا يتعرَّض له لحرمة البيت. لذلك لما حدثتْ أحداثُ البيت الحرام، وأُطلِقَ فيه النار وفُزِّع فيه الآمنون، خرج علينا من الملاحدة مَن انتهز هذه الفرصة وأخذ يُشكِّك في قوله تعالى:وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } [آل عمران: 97] لأن ما حدث يتعارض مع هذه الآية. وينبغي هنا أنْ نُفرِّق بين أسلوبين من أساليب الأداء القرآني، فقوله تعالى:وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } [آل عمران: 97] لا يعني الإخبار بأن مَنْ دخله كان آمناً، إنما المراد منه: أطلب منكم أنْ تُؤمِّنوا مَنْ دخله، فهو أمر شرعي يحتمل أنْ نُطيعه فنُؤمِّن مَنْ دخله، ويحتمل ألاَّ نطيع فنُروِّع مَنْ دخله.

السابقالتالي
2 3 4