الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } * { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } * { أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ }

مسألة الإنزال تعني إنزال شيء من أعلى إلى أسفل، وتقتضي: مُنزِل، ومُنزَل، ومُنزَل إليه، فالذي أنزل هو الله، وما دام أنْ المنزِلَ هو الله فالإنزال من جهة العلو بصرف النظر عن المكانية، لأنه قال عن الحديد:وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [الحديد: 25] والحديد في باطن الأرض، والإنزال يُشْعِر بعلُوّ المنزل. ثم الشيء المنزَل هو القرآن الكريم { أَنزَلْنَاهُ } [الدخان: 3] إلىَ مَنْ أنزل إلى الناس { فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ } [الدخان: 3] هي ليلة القدر يعني: زمنَ النزول العام للقرآن. وقال { فِي لَيْلَةٍ } [الدخان: 3] لأن الليل محل السكون والهدوء، حيث لا لَغَطَ ولا ضوضاء ولا صَخَب يُمكن أنْ يُشوّش على المنزَل، كذلك يكون الإنسان ساكناً غيرَ منشغل الجوارح بشيء. إذن: في الليل يتوفر للعقل كُلُّ مُقوِّمات الانتباه والاستيعاب وصفاء النفس، لذلك اقرأ في أول سورة المزمل:يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ * قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً } [المزمل: 1-6]. إذن: نزل القرآن ليلاً لأنه أنسبُ وقت لنزوله، ونزل على قلب رسول الله بمكة، فهي ليلة مكة لا غيرها، ومكة وسط العالم ومركزه، لذلك قال تعالى:وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [البقرة: 143]. البعض قال عن هذه الليلة: هي ليلة القدر لقوله تعالى:إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ } [القدر: 1] وآخرون قالوا: بل هي ليلة النصف من شعبان، والمسألة هذه تحتاج منا إلى تمحيص لأنه نزل في واحدة منها. نقول: القرآن قبل أنْ ينزل ويباشر مهمته في الوجود كان في أيِّ مكان؟ كان في اللوح المحفوظإِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } [الواقعة: 77-79] وقال:وَإِنَّهُ فِيۤ أُمِّ ٱلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } [الزخرف: 4]. فالنزول الأول للقرآن كان جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، لكن هل نزل ما سُجِّل في اللوح المحفوظ أو نسخة منه؟ قالوا: بل نسخة منه بعد استنساخه. ثم بعد ذلك نزل مُنجَّماً حسْب الأحوال والأحداث، نزل به الملَكُ جبريل على قلب سيدنا رسول الله، كل نَجْم منه في مناسبة. إذن: عندنا مراحل ثلاث لنزول القرآن: الأولى استنساخه من اللوح المحفوظ، وهذا له زمن، ثم نزوله جملةً واحدة إلى سماء الدنيا وله زمن، ثم نزوله مُنجماً حسْب الأحوال، وهذا النزول له زمن ممتدّ على مدى الأحداث استغرق عدة سنوات. ومن الممكن أنْ نجد في هذه المراحل الثلاث مخرجاً من إشكال: أهو في ليلة القدر أم في النصف من شعبان؟ ولا مانع من اشتراك الليلتين في هذا الفضل في أيِّ مرحلة من مراحله.

السابقالتالي
2 3 4