تثبت هذه الآية أن للجمادات عاطفةً، وأنها تحب وتكره، وتبكي وتفرح، فالعاطفة إذن موجودة في كُلِّ المخلوقات على قدْر الحاجة، فالعاطفة في الإنسان باقية، فتراه مثلاً يحب ولده، حتى لو كان الولد غبياً أو مشاغباً، ويستمر معه هذا الحب، وربما يعطف عليه أكثر من السَّويِّ. لذلك لما سألوا الأعرابي: منْ أحبّ بنيك إليك؟ قال: الصغير حتى يكبر، والغائب حتى يعود، والمريض حتى يشفى. أما الحيوان فعاطفته على قدْر الحاجة، فترى الحيوان يعطف على ولده الصغير ويدافع عنه، فإذا ما كبر تركه وكأنه لا يعرف عنه شيئاً، ولو ذُبح أمامه ما شعر نحوه بشيء، لأن عاطفته بقدر حاجة الصغير للتربية. كذلك الجماد، الحق سبحانه يرتقي به ويجعل له عاطفة، ومن هذه العاطفة أن السماء والأرض ما بكتْ على هؤلاء المهلكين لأنهم خالفوا منهج الله. لذلك خاطب اللهُ الجمادات، وجعلها في منزلة أُولي الألباب المستنيرين الذين يفهمون ويعقلون، بدليل أن الله تعالى خيَّر السماوات والأرض والجبال في مسألة حَمْل الأمانة:{ إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا.. } [الأحزاب: 72]. فدلَّ ذلك على أن لها اختياراً وتعقلاً، وبعضهم قال: إن السماء والأرض مُسخَّران ومقهوران على العبادة، قلت: لا بل كل شيء في الوجود عدا الله خُيِّر، فمنها مَنْ تنازل عن اختياره لاختيار ربه، وعن مراده لمراد خالقه، ومنها منِ اختار أنْ يكون مختاراً وهو الإنسان. وقلنا: فَرْق بين وقت التحمل ووقت الأداء، فأنت تضمن وقت التحمل وتثق به، لكنك لا تضمن وقت الأداء، إذن: كانت الجمادات أكثر موضوعية من الإنسان في هذه المسألة لأنها اختارتْ بداية أنْ تكون مقهورةً لربها، أما الإنسانُ فاختار أنْ يكون مُخيّراً، وعند الأداء منهم مَنْ آمن ومنهم مَنْ كفر، منهم مَنْ أطاع، ومنهم مَنْ عصى. فإنْ قلتَ: فبأيِّ لغة تتكلم الأرض والسماء؟ وكيف تفهم؟ نقول: يخاطبها ويفهم منها خالقها سبحانه، فهو الذي يعلم لغتها لذلك يعطينا الحق سبحانه أمثلة لكلام هذه المخلوقات وتسبيحها لله تعالى، فقال:{ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ٱلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَٱلطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ } [الأنبياء: 79] وقال:{ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.. } [الإسراء: 44]. وفي قصة سيدنا سليمان عليه السلام تكلَّم الهدهد كلاماً دلَّ على علمه وفَهْمه لقضية التوحيد كأحسن ما يكون الفهم، وتكلَّمت نملة ووجدنا عندها مقاييس الحق والعدالة. ووالله إن الإنسان ليتعجب حينما يقرأ قوله تعالى:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } [الحج: 18].