الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } * { وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } * { وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ }

يعني: بعد أنْ أغرقهم الله تركوا هذا النعيم، كَمْ خبرية تفيد الكثرة { مِن جَنَّاتٍ } [الدخان: 25] حدائق وبساتين نضرة { وَعُيُونٍ } [الدخان: 25] يعني: عيون الماء العذب الذي يجري خلال هذه البساتين. { وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } [الدخان: 26] مَقام بفتح الميم اسم مكان القيام إذا كنت جالساً، قمت، واسم مكان الإقامة مُقام بضم الميم لموضع الإقامة، والمُقام لا يُوصف بأنه كريم إلا إذا توفرتْ لمن يقيم فيه سُبل الراحة والرفاهية، فالمقام نفسه فيه كرم. يعني: يجمع لصاحبه كلَّ وسائل الخير حين يقوم وحين يجلس. وكأن الخير تابع له مطيع لأوامره، ولا يكون ذلك إلا إذا كان له تابعون وهو متبوع، وهؤلاء التابعون يؤدون له أوامره في قيامه وفي قعوده. والإنسان حينما يكون قاعداً أو نائماً أو مضطجعاً ما الذي يجعله يقوم؟ أمر جَدَّ عليه فأقامه، وهذا الأمر نوعان: إما خير يُفرحه ويهشّ إليه فيقوم له مثل حبيب أو صديق غائب وهو يعود، أو أمر يُحزنه ويفزعه فيقوم له. كما وردتْ كلمة مُقام بضم الميم، وهي بمعنى مكان الإقامة في قوله تعالى:إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } [الفرقان: 66]، وفي قوله تعالى:خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } [الفرقان: 76]. وقوله: { وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ } [الدخان: 27] كلمة نعمة أيضاً وردتْ بفتح النون مرتين كما هنا، ووردت بكسر النون مثلٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ.. } [البقرة: 40] في 34 موضعاً إما مُفردةً وإما مُضافةً إلى الله، ووردتْ نعمتي ونعمتك ونعمته للغائب. والفرق بينهما أن نعمة بالكسر تعني: ما يتنعَّم به، ولكن يلاحظ أن المتنعم به أشياء خارجة عن الذات، فمرة توجد النِّعمة وتُوجد القدرة على التنعُّم بها. ومرة توجد النِّعمة ولا توجد القدرة على التنعّم بها. أما النَّعمة بالفتح فتعني وجود النِّعمة، ووجود القدرة على التنعُّم بها. وقوله { كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ } [الدخان: 27] من التفكُّه والتلذُّذ، مأخوذة من الفاكهة وهي تدلُّ على الرفاهية، لأن الطعام منه أشياء ضرورية أساسية، وهي التي بها قِوَام الحياة واستبقاؤها، وطعام آخر للترف والمتعة كالفاكهة تُؤكل بعد الطعام. وهذه الأشياء التي تؤكل للترف والمتعة يمكن الاستغناء عنها لأنها ليستْ من الضروريات، بدليل أن كثيراً من الناس لا يعرفون أكل الفاكهة وهم أحياء يُرزقون. إذن: كانوا في رفاهية من العيش وفي متعة فضلاً عن الضروريات.