الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ } * { وَٱتْرُكِ ٱلْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ }

الحق سبحانه وتعالى يقي أولياءه ويعطيهم الحصانة اللازمة، فالأمر لموسى أنْ يخرج ببني إسرائيل ليلاً، ويخبره بما سيحدث من فرعون وقومه، وأنهم سيتبعونهم فلم يتركه للمفاجأة بل أعطاه حقنة وقاية بالعلم بالشيء، وهذه من أسباب النصرة والتأييد. وهذا هو الذي شجَّعه أنْ يقول كلا لن يدركونا ولن ينتصروا علينا، ونحن مُؤيَّدون من الله، والذي أمرني أنْ أسري بعباده، وأخبرني ما سيكون من عدوي لن يخذلني. إذن: كل لقطة في هذه القصة دلَّتْ على طلاقة القدرة التي تعمل في الأشياء كلها، وتنقل الشيء إلى ضده. وقوله: { وَٱتْرُكِ ٱلْبَحْرَ رَهْواً } [الدخان: 24] هذا الأمر جاء بعد الأمر بضرب البحر بالعصا في موضع آخر. إذن: هي لقطات متفرقة بين الآيات تتكامل لتخدم فكرة واحدة، وتكون نسيجاً واحداً للقصة، فهناك قال لهٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ } [الشعراء: 63] وهنا أمره { وَٱتْرُكِ ٱلْبَحْرَ رَهْواً } [الدخان: 24] كلمة رَهْواً مصدر من رها يرهو رهوا. مثل: عدا يعدو عدواً. عدا يعني: جاوز المكان جرياً. وضده رها يعني: سكن في مكانه. فموسى حين ضرب البحر تجمَّد الماء وسكن في مكانه على شكل جبلين كبيرين بينهما يابس، ورأى موسى هذا اليابس طريقاً مُمهداً فعبره إلى الجانب الآخر. وطبيعي وحسْب تفكير العقل أنْ يفكر أنْ يضرب البحر مرة أخرى ليعود في سيولته، ويمنع فرعون وجنوده من اللحاق به، لكن لله تعالى في الأمر تدبير آخر، فقال له: { وَٱتْرُكِ ٱلْبَحْرَ رَهْواً } [الدخان: 24] أي: على سكونه. موسى يفكر ببشريته، والحق سبحانه يأمر بحكمته، وهذه ليس فيها غضاضة على موسى، لأن الذي يُصوِّب له هو ربُّه عز وجل، وهذا شرف لموسى وعظمة. وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نقل لنا هذا التصويب حين يُخطئ الرسل في أمر لم يردْ فيه نصّ، كذلك صوَّب الله له في قوله:يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ } [التحريم: 1] وعاتبه ربه بقوله:عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [التوبة: 43] فمَنِ الذي أخبرنا بهذا التصويب وبهذا العتاب؟ إنه رسول الله الصادق في البلاغ عن ربه. إذن: الحق سبحانه صوَّب لنبيه موسى عليه السلام وقال له { وَٱتْرُكِ ٱلْبَحْرَ رَهْواً } [الدخان: 24] لأنِّي أريد أنْ أُهلك فرعون وجنوده بنفس الشيء الذي نجَّيتك به، وهذه من طلاقة قدرة الله، ففرعون لا بدّ أنْ يغترّ بهذا الطريق اليابس الذي يراه وسوف يعبره خلفك. وفعلاً ما أنْ وصل موسى إلى الناحية الأخرى من البحر حتى كان فرعونُ في وسطه، وعندها أمر الله الماء أنْ يعود إلى استطراقه وسيولته، وأغرقَ فرعونَ وجنوده { إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ } [الدخان: 24] فبطلاقة القدرة أنجى الله سبحانه وأهلك بالشيء الواحد. ثم يُبيِّن لنا الحق سبحانه ما كان فيه هؤلاء من النعمة، وما آلوا إليه من النقمة والعذاب: { كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ... }.