الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }

هذا هو المقسَم عليه، فالحق سبحانه يقسم بهذه الحروف العربية، وبالكتاب المكوّن من هذه الحروف أنه جعله { قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [الزخرف: 3] سماه كتاباً لأنه مكتوب في السطور، وسماه قرآناً لأنه مقروء، ووصفه بأنه عربي ليؤكد على أنه نزل بلسان القوم، كما قال سبحانه:وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ.. } [إبراهيم: 4]. إذن: لا بدَّ أنْ يكون الرسول بلسان قومه ليفهموا عنه ولتتم عملية البلاغ. فإنْ قلتَ: فكيف إذن أُرسِل محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة على اختلاف لغاتهم؟ نقول: أُرسِل بلسان قومه الذين عاصروه وباشروا تلقِّي توجيهاته الأولى، فلما فهموها واقتنعوا وآمنوا بصدقها حملوها إلى غيرهم من الأمم، وساحوا بها في أنحاء الأرض حركةً وعملاً وسلوكاً وتطبيقاً. هذا معنى الرسالة إلى الناس كافّة، فالإعجاز فيها في السلوك العملي والتطبيق، لذلك يقول لنا التاريخ: إن الإسلام انتشر في البلاد بالسلوك القويم الذي بهر الناس جميعاً فدخلوا في دين الله أفواجاً، واقرأ:وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } [فصلت: 33]. ويقول سبحانه عن هذه الأمة:وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً.. } [البقرة: 143] وهكذا كلف الخلفاء جميعاً بحمل هذه الرسالة، فالرسول يشهد أنه بلَّغنا، والأمم الأخرى تشهد أننا بلَّغناهم. إذن: باللغة فهمتْ هذه الأمة وترجمتْ هذا المنهج إلى عمل، فتحوَّلَتْ من أمة أمية جاهلة لا نظام لها ولا قانون إلى أمة راقية جذبتْ إليها أرقى أمم الأرض مثل فارس في الشرق، والروم في الغرب، لقد زلزلوا هاتين الحضارتين حينما طبَّقوا تعاليم المنهج الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم، هذا هو الذي لفتَ الأنظار إلى الإسلام. لذلك لما نتأمل في سورة سيدنا يوسف عليه السلام نجد هذا النموذج العملي التطبيقي للإيمان، اقرأ:وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيۤ أَرَانِيۤ أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ ٱلآخَرُ إِنِّي أَرَانِيۤ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [يوسف: 36]. لقد نال يوسف هذه المنزلة وصار مقصداً للسائلين، لماذا؟ لأنه وصل إلى درجة الإحسان، وهي القمة في التطبيق العملي للمنهج الذي جاء به، ثم يُوضح هو هذا المسلك العملي الذي أوصله إلى منزلة التأويل، فيقول:قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيۤ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَٱتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـيۤ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِٱللَّهِ مِن شَيْءٍ ذٰلِكَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } [يوسف: 37-38]. يعني: لو فعلتم مثلي لأصبحتم قادرين على فهم الرؤيا وتأويلها مثلي تماماً.

السابقالتالي
2