الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ }

يريد الحق سبحانه أنْ يكشف زيفهم ويفضح كذبهم في قولهمبَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ } [البقرة: 170] ويسوق لهم الدليل الواقعي من واقع حياتهم، فها هو سيدنا إبراهيم الخليل أبو الأنبياء ومحطّ أنظار العرب جميعاً يُقدِّسونه ويفتخرون بالانتساب إليه. يقولون: نحن من نسل إبراهيم، وإبراهيم لم يُقلِّد أباه في عبادته للأصنام، فلماذا تقلدون أنتم آباءكم ولم تقلدوا إبراهيم؟ فالحق سبحانه ينقض مسألة التقليد عملياً في قصة سيدنا إبراهيم وينقضها فلسفياً أيضاً، فلو تتبعتَ الوجود الأول لم نجد إلا آدم عليه السلام، وآدم جاء بمنهج وسار عليه وسار عليه أولاده من بعده، فكيف حدث الانحراف عن هذا المنهج؟ إذن: لا بدَّ أنه جاء مع مرور الزمان أنَاسٌ خرجوا على المنهج وقلبوا الحقائق لهوىً في أنفسهم، ومن هؤلاء جاء جيل يعبد الأصنام، لأنهم غير محكومين بمنهج السماء ولا بقضية التكاليف: افعل ولا تفعل، فناسبهم عبادة آلهة لا تكليفَ عندها، لذلك عبدوا الأصنام. قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ } [الزخرف: 26] دار حولها جدلٌ واسع بين العلماء: أهو أبوه الحقيقي أو هو عمه آزر؟ المتتبع لكلمة أبيه في القرآن يجد أنها وردت ثماني مرات، أولها في سورة الأنعاموَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ } [الأنعام: 74] وآخرها في سورة الممتحنة، ولم تأت كلمة لأبيه بعد ذلك إلا مرة واحدة في قصة سيدنا يوسفإِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ } [يوسف: 4]. إذن: لم تأتِ آزر إلا في آية الأنعام فقط، وهي أول الآيات الثمانية، فكأن الحق سبحانه حسم الخلاف في هذه المسألة، فأراد أنْ يُبيِّن لنا أن آزر عمه، بدليل أنه قال { لأَبِيهِ آزَرَ } [الأنعام: 74] وفي باقي المواضع قال لأبيه أي: الذي عرفتموه أولاً. أي: في سورة الأنعام. وهذا أمر شائع في لغتنا أن نقول للعم أب، فحين يسأل رجل: أبوك موجود؟ تفهم أنه يريد الأب الحقيقي، إنما لو قال لك: أبوك محمد موجود؟ فهو يقصد عمك لأنه حدَّده بالعَلَم بعد الوصف. والقرآن يُدخل العَمَّ ضمن الآباء في قوله تعالى:أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ ٱلْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } [البقرة: 133]. فكلمة { آبَائِكَ } [البقرة: 133] جمع يشمل إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، وإذا اجتمع جمع في حكم جمع تكون القسمة مفردة، فتأخذ أب هو إبراهيم، وأب هو إسماعيل، وأب هو إسحاق، فهؤلاء الثلاثة آباء ليعقوب، وإسماعيل أخو إسحاق، وإنْ كان إسماعيل هو الأب إذن إسحاق ليس أباً، بل هو عَمّ. إذن: سُمِّيَ العَمُّ أباً. لذلك الحق سبحانه في أول آية تتكلم عن سيدنا إبراهيم ذكر { لأَبِيهِ آزَرَ } [الأنعام: 74] ليُبيِّن أن آزر الذي جادله إبراهيم وناقشه في مسألة التوحيد ليس أبا إبراهيم الحقيقي، إنما هو عمه.

السابقالتالي
2