الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ لِتَسْتَوُواْ عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا ٱسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَـٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } * { وَإِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ }

قوله تعالى: { لِتَسْتَوُواْ عَلَىٰ ظُهُورِهِ.. } [الزخرف: 13] الاستواء هنا يدل على الراحة، فبعد أنْ كنتَ تسير وتتحمَّل مشقة السير ركبت على دابة مُذللة لك، لذلك طلب منك أنْ تتذكر أنها نعمة من الله عليك تستوجب شكره وذكره، والحذر من الغفلة عن تذكُّر النعم وشكْر المنعم، والدابة تسير بك على أربعة قوائم تجعلها مُمهَّدة لك سهلة السير. والسفن تحتاج في سَيْرها إلى ثلاثة عناصر: السفينة، والبحر الذي تسير فيه، والهواء الذي يُحركها، فساعة تسير بك تتذكر كلّ هذه النعم التي اجتمعتْ لك لتسير بك حيث تريد. ثم يُعلِّمنا ربنا عز وجل كيفية الذكْر المناسب لهذه النعمة، وهو أنْ نقول كما جاء في القرآن: { سُبْحَانَ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَـٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } [الزخرف: 13]. والنبي صلى الله عليه وسلم علَّمنا دعاء السفر والركوب، وعلَّمنا أن نذكر الله كما باشرنا عملاً جديداً، لذلك قال سبحانه في قصة السفينةبِسْمِ ٱللَّهِ مَجْريٰهَا وَمُرْسَاهَا.. } [هود: 41] وذكر الله هو الطاقة التي نستمد منها العون، القوة على السفر أو على أداء العمل. وأنت حين تدعو بدعاء الركوب وتقول " سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين " إنما تنفي عن نفسك الغرور، وتعترف أنك تركب هذا المركب لا بقدرتك عليه، إنما بقدرة الله الذي سهَّله لك وسخَّره لخدمتك، ولولا أن الله سخَّره ما استطعتَ السيطرة عليه ولا اعتلاء ظهره. فالسفينة ربما تغرق بمَنْ فيها، والدابة ربما تَنْفَق منك في وسط الطريق، إذن: تذكَّر دائماً قدرة الله في هذه المسألة، وبادر بذكر الله عند الركوب. هذه الدوابّ التي تركبها وتحمل عليها، أَلَكَ فَضْلٌ فيها؟ حتى السفن التي هي صناعة يدك لولا أن الله علَّم نوحاً صناعة السفن ما كان الإنسان عرفهاوَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } [القمر: 13] وقال:وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا.. } [هود: 37] فالفكرة الأولى فيها من الله عز وجل. تذكر أن الحصان الذي تركبه، والجمل الذي تحمل عليه أقوى منك، وإذا حَرنَ لا تستطيع السيطرة عليه لذلك قال تعالى في هذه الدوابأَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } [يس: 71-72] فلولا أن الله ذلَّلها ما ذللناها. وسبق أنْ قلنا: إن الطفل الصغير يقود الجمل ويركبه ويُنيخه، والجمل يطاوعه في يُسْر وسهولة، صحيح منظر يدعوك إلى التأمل في قدرة الله الذي سخَّر هذا المخلوق الضخم لخدمة هذا الطفل الصغير الذي لا يقدر على شيء. وفي المقابل، تجد البرغوث مثلاً يقُضّ مضجعك ويُقلقك طوال الليل، ولا تستطيع أن تفعل له شيئاً، لماذا؟ لأن الخالق سبحانه سخَّر لك هذا ولم يُسخِّر لك ذاك، فتأمل ولا تظن أنك تركب هذه المراكب بقوتك ولا بقدرتك عليها. ومعنى { وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } [الزخرف: 13] أي: مطيقين أو غالبين، يعني: ليس لنا قدرة عليه ولا سيطرة ولا تحكّم إلا بتسخير الله له { وَإِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ } [الزخرف: 14] أي: راجعون وآيبون.