الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلْفُلْكِ وَٱلأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ }

كلمة { ٱلأَزْوَاجَ.. } [الزخرف: 12] جمع: زوج. والزوج كما قلنا هو المفرد الذي معه مثله، والزوجان كل متقابلين مثل: أبيض وأسود، حُلو وحامض، فوق وتحت، يمين وشمال. والزوجية كما أخبر الحق سبحانه موجودة في كل شيءوَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [الذاريات: 49] ومنها ما نعلمه ومنها ما لا نعلمه لذلك قال هنا { وَٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا.. } [الزخرف: 12] كلمة { كُلَّهَا } أي: مما نعلمه كالذكر والأنثى ومما لا نعلمه. وأهل الفكر والتدبُّر يقفون عند هذه الآية يلتمسون ما فيها من حكمة، فالحق سبحانه يمتنُّ بأنْ خلق الأزواج كلها ليُثبتَ لنا أنه سبحانه فرْد لا زوجَ معه، فقانون الاستقصاء العلمي يقول: إن الزوج يعني الاثنين، أو ما يقبل القسمة على اثنين. فحين نأخذ الترتيب من أوله نقول: إن الواحد الذي ليس له ثانٍ، واثنان يعني واحداً انضمَّ له واحد آخر. إذن: الاثنان كرقم يحتاج إلى الواحد، أما الواحد فلا يحتاج إلى شيء، إذن: المفرد الحق هو الذي لا يحتاج لشيء، وهذه لا تكون إلا لله عز وجل. إذن: الزوج يحتاج إلى الفرد، والفرد لا يحتاج إلى الزوج. وما دام أنه سبحانه خالق الأزواج كلها. إذن: هو فرد لا مثيلَ له، والمتأمل يجد أنَّ الزوجين مختلفان في الصفات مثل الذكر والأنثى، لكل منهما صفاته مع وجود صفات مشتركة بينهما. فالصفات المشتركة تعني أن لكل زوج منهما مثلاً، والصفات المختلفة تعني أن كلاً منهما فيه نقص عن الآخر، والله سبحانه وتعالى فرد لا مِثْلَ له، وكامل لا نقصَ فيه، فكأن الآية تثبت أن الله تعالى فرد خالق لا يحتاج إلى شيء، ويحتاج إليه كلُّ شيء. وقوله: { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلْفُلْكِ وَٱلأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ } [الزخرف: 12] الفلك. أي: السُّفن. ومن الأنعام التي تُركب مثل الإبل، كما قال سبحانه:وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ ٱلأَنفُسِ.. } [النحل: 7]. فالمعنى: خلق لكم من الفلك والأنعام ما تركبونه، لكنه قال { مَا تَرْكَبُونَ } [الزخرف: 12] ولم ما تركبونها ليطمر الفلك في الأنعام، والسفن لا نركبها إنما نركب فيها، لذلك سماهاٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ } [الصافات: 140] وقال:حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ.. } [يونس: 22]. إذن: نحن نركب على الأنعام ونستوي على ظهورها، ونركب في السفن، حتى السفن القديمة كان لها جدران وبداخلها مقاعد، فما بالُكَ بالسفن المكوّنة من أدوار مثل البيوت والتي وصفها القرآن بأنها كالأعلام. لكن لماذا غلَّب الأنعام وطمر فيها السفن؟ لا بدَّ أنَّ هنا حكمة، لأن الحق سبحانه هو الذي يتكلم، لذلك تجد كل لفظة في موضعها بدقة تعبيرية، فغلَّب الأنعام وقال { مَا تَرْكَبُونَ } [الزخرف: 12] لأننا نركب على الأنعام، أما السفن ففي السفن. ثم لأن الأنعام خَلْقُ الله المباشر، والفلك خَلْق الإنسان، كما أن الحق سبحانه يخاطب بهذه الآية العرب في المقام الأول، والعرب لم يكُنْ عندهم دراية بالسفن ولا يركبونها، إنما كانت وسائلهم في الانتقال والحمل هي الأنعام، فهي معهودة لهم.