الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِي نَزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ }

قوله { مِنَ ٱلسَّمَآءِ.. } [الزخرف: 11] أي: من جهة السماء { بِقَدَرٍ.. } [الزخرف: 11] بحساب معين ومقدار محدَّد حسب ما تقتضيه حكمة الله، بحيث ننتفع بهذا الماء ونُحيي به الأرض دون مُنغِّصات، لأن الماء قد يكون وسيلة إهلاك ودمار كما رأينا في قصة سيدنا نوح. لذلك قيَّد نزول الماء هنا بقوله { بِقَدَرٍ.. } [الزخرف: 11] يعني: على قدْر حاجتكم وعلى قدر ما يُصلحكم، لذلك علَّمنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول عند نزول المطر. " اللهم حوالينا لا علينا، اللهم على الآكام والجبال والآجام والظراب والأودية ومنابت الشجر ". ومعنى { فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً.. } [الزخرف: 11] أي: أحييناها بالنبات، كما قال سبحانه في موضع آخر:وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [الحج: 5]. فالأرض الميتة التي لا نباتَ فيها، لذلك في الفقه تجد باب إحياء الموات، وفي الحديث الشريف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ أحيا أرضاً مَوَاتاً فهي له ". وهذه قاعدة لو أخذتْ بها دول العالم لَقضيْنا على الفقر ولعَمَّ الخير كُلَّ بقاع الأرض، ولمَا وجدنا شبراً واحداً صحراء. وعندنا في مصر مثال واضح: لما ضيَّقتْ الحكومة على الناس ومنعت انتشارهم في الصحراء ازدحم الناس في الوادي والدلتا وحدثتْ الفاقة، ولم نستطع أنْ نُوفر الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الزراعية. ولما سمحتْ الدولة بزراعة الصحراء وشجعتْ الناس عليها ماذا حدث؟ رأينا الصحراء تخضر وتُخرِج لنا مَا لَذَّ وطابَ من الخضر والفاكهة، ومَنْ يسير في الطريق الصحراوي يرى ذلك. وقد بيَّن الحق سبحانه أن الماء ينزل من السماء فينتفع الناسُ به في زراعة الأرض وما زاد عن حاجتهم تمتصُّه الأرض حتى يتكوَّن بداخلها أنهار تحت سطح الأرض، قال تعالى:أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي ٱلأَرْضِ.. } [الزمر: 21]. كلمة ميتاً ميْت بالسكون. يعني: ما جرى عليه الموت بالفعل، أما ميِّت بالتشديد فهو ما يُحكم عليه بالموت وإنْ كان على قيد الحياة.
وتسألني تفسير ميْت وميِّتٍ   فدونك قد فسرت إن كنت تَعْقِلُ
فمن كان ذا روح فذلك ميّتٌ   وما الميْت إلا من إلى القبْر يُحملُ
ومن ذلك قوله تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم:إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [الزمر: 30]. وقال الشاعر في مدح سيدنا رسول الله:
أَخُوكَ عِيسَى دَعَا مَيْتاً فَقَامَ لَهُ   وأنْتَ أحييْتَ أَجْيالاً مِنَ العَدَمِ
وقوله تعالى: { كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } [الزخرف: 11] كذلك يعني: مثلما نُحيي الأرض الميتة نحييكم ونخرجكم من قبوركم فخذوا مما تشاهدونه في الأرض دليلاً على ما غاب عنكم من أمور البعث وإحياء الموتى، فحين نقول لكم أن الله يُحييكم بعد موتكم فصدِّقوا.