الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ ٱلْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي ٱلسَّعِيرِ }

قوله تعالى كذلك أي: كهذا الوحي الذي سبق { أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً } [الشورى: 7] سُمي قرآناً لأنه مقروء، وسُمِّي الكتاب لأنه مكتوب مُسطر في كتاب، ووصِف بأنه عربي لأنه بحروف وبلسان عربي مبين، وعربي منسوب إلى العرب، وقلنا: إن اللغة ألفاظ يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، وأنها بنت المحاكاة، فما سمعتْه الأذن يحكيه اللسان. وليست اللغة جنساً ولا دماً، بدليل أن الولد العربي لو عاش في بيئة أجنبية يتكلم نفس لغتها، لأن اللغة تقليد ومحاكاة تعتمد على التلقِّي والتقليد، حتى في لغتك التي تتكلم بها يطرأ عليك اللفظ فلا تعرف معناه، لماذا؟ لأنك لم تسمعه من قبل. لذلك نقول: إن التلقين في اللغة دليل على صدق الحق سبحانه فيما قال:وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا } [البقرة: 31] فالله تعالى هو أول معلم للبشر، وإلا فمَنْ علَّم آدم الأسماء والحروف والكلمات؟ بعض المستشرقين وقف عند هذه الآية، وقال: كيف يكون القرآن عربياً وفيه كلمات كثيرة من غير العربية، فيه من لغة الرومان ومن لغة الفرس والحبشة؟ ونقول: معنى { قُرْآناً عَرَبِيّاً } [الشورى: 7] أي: نزل بكلمات دارتْ على ألسنة العرب وتُدُووِلَتْ بينهم قبل نزول القرآن، فصارت من لغتهم، ثم كم هي هذه الكلمات بالنسبة لكلمات القرآن؟ إذن: فالقرآن عربي، والله تعالى يقول:وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } [إبراهيم: 4] يعني: يتلقون عنه ويفهمون منه، وإلا ما تم البلاغ عن الله. فإنْ قلتَ: كيف ذلك ومحمد صلى الله عليه وسلم مُرْسَلٌ للناس كافة في كل مكان، وفي كل زمان؟ نقول: هذه مهمة أمة محمد من بعده، أنْ تتعلم هذه اللغات، وأن تحمل إليها من دين الله في أيِّ مكان، لأن محمداً خاتم الرسل وآخر الأنبياء، فلا بدَّ أن تحمل الأمة من بعده هذه المهمة، وأنْ تسيح بها في أنحاء العالم. فالقرآن نزل بالعربية لأنه سبحانه اختار العرب لحمل هذه الرسالة، وسبق في موضع قريب أن تكلمنا عن اختيار العرب بالذات لهذه المهمة، والحكمة من كَوْن رسول الله أمياً في أمة أمية، وإذا كان القرآن معجزاً للعرب بلفظه وأسلوبه، فهو معجز لغير العرب بمعناه، ومعجز بآياته الكونية التي تظهر للناس وتبهرهم من حين لآخر. تصوَّروا لو أن محمداً كان متعلماً في أمة متعلمة ذات حضارة، ماذا كانوا يقولون، مع كثرة الكفرة والمعاندين والملحدين، والله لو كان الأمر كذلك لقالوا: إن الإسلام قفزة حضارية كالتي حدثتْ في كثير من الأمم. إذن: نقول: الأمية عيب في كل أمي إلا في رسول الله فهي شرف، لماذا؟ لأنها تعني أنه تلقى كل علومه وكل ثقافاته من أعلى، فهي شرف لارتقاء مصدرها إلى الحق سبحانه.

السابقالتالي
2 3