الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ ٱلإِنسَانَ كَفُورٌ }

قوله تعالى: { فَإِنْ أَعْرَضُواْ.. } [الشورى: 48] أي: عن كل هذه المسائل وتركوك وانصرفوا عن المنهج الذي جئتهم به، ومنه قوله سبحانه:وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ } [الإسراء: 83] فإن انصرفوا عنك يا محمد { فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ.. } [الشورى: 48]. هذه تسلية لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه كان دائماً حريصاً على هداية القوم يحزنه إعراضهم وانصرافهم عن الهدى الذي جاء به، وقد كان يشق على نفسه في هذه المسألة حتى يكاد أن يهلكها، لذلك خاطبه ربه في أكثر من موضع يُسلِّيه ويُخفِّف عنه وينهاه أنْ يُحمِّل نفسه فوق طاقتها. قال تعالى:لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [الشعراء: 3] وقال في الكهف:فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً } [الكهف: 6]. وهنا يقول له: { فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً.. } [الشورى: 48] يعني: مراقباً لهم مَنْ آمن وَمَنْ كفر، فمهمتك يا محمد هي مجرد البلاغ { إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ.. } [الشورى: 48] وليس لك أنْ تجبر أحداً على الإيمان. ثم يُقرر الحق سبحانه حقيقة طبع عليها الإنسان { وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا.. } [الشورى: 48] هذا أمر منطقي أنْ يفرح الإنسانُ بالرحمة وبالخير يُساق إليه، والفرح هنا بمعنى البطر، والإنسان هنا اسمُ جنس يفيد العموم. { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ ٱلإِنسَانَ كَفُورٌ } [الشورى: 48] لاحظ أن الرحمة لم تُنسب إلى الإنسان لأنها ليستْ من عمل يده، إنما نُسبت إليه السيئة لأنها نتيجة سَعْيه وجني يديه. إذن: لا تُنسب السيئة إلى الله لأنها بعملك أنت، فإنْ نسبَتها لله فقد كفرتَ به { فَإِنَّ ٱلإِنسَانَ كَفُورٌ } [الشورى: 48] كفور لنعمة الله عليه، ومن كفران النعمة أنْ تنسب الأسباب لغير المسبب. وكفران النعمة وجحودها طَبْع في الإنسان إلا مَنْ رحم الله، فمثلاً يأتيك رجل يطرق بابك لتتوسط له في مصلحة فتقف إلى جواره وتساعده حتى يقضي مصلحته، الحقيقة أن الله هو الذي يقضي ويُيسِّر، وما أنت إلا سبب، وقد صادف تدخلك فيها وقت قضائها. يعني: كانت ستُقضى بدون واسطة. إذن: شفاعتك لم تأتِ بالمصلحة للغير إنما صادفتْ القبول، العجيب بعد ذلك أنْ تجد الإنسان مُتغطرساً لا يعترف بالجميل لصاحبه وينسبها لنفسه: أنا عملتُ كذا وكنتُ على استعداد لكذا وكذا، لماذا؟ لأن الجميلَ إحسانٌ، والإحسانُ يجعلك ذليلاً لمن أحسن إليك.
أحسِنْ إلَى النّاسِ تستعبِد قُلُوبَهُم   فَطَالَما اسْتَعْبدَ الإنْسَانَ إحْسَانُ
فمَنْ ينكر الجميل يريد أنْ يتحرر من هذه الذِّلة، وما أشبه مُنكِر الجميل بقارون الذي قال:إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ.. } [القصص: 78] وقديماً قالوا: اتَّقِ شر مَنْ أحسنتَ إليه، لماذا؟ لأنك تُذكِّره بحال ضعفه وحاجته للمساعدة.

السابقالتالي
2