الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ }

الحق سبحانه وتعالى رحيم بعباده لطيف بهم، وحينما أجاز لهم الرد بالمثل في القصاص وفي المظالم أراد سبحانه أنْ يُرضي مواجيد المظلوم وعواطفه، وأنْ يريحه بالانتقام من ظالمه، لكن ضيَّق هذا الباب في حين أوسع باب العفو ورغّب فيه، ضيَّق عليك باب الانتقام حينما قال:وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } [النحل: 126]. فالحق سبحانه حينما قال { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا... } [الشورى: 40] إنما ليريح قلبك ويُنهي العداوة والبغضاء بين الطرفين، لكن أتضمن حين تنتقم أنْ ترد بالمثل؟ إن المثلية هنا أمر شاقّ جداً لا يقدر أحد عليه، ففي أبسط الأمور لو شخص ضرب الآخر ضربة، أو لطمه لطمة على وجهه، أيستطيع أنْ يردَّ بمثلها دون زيادة؟ ولو زاد عليها لكان هو الآخر ظالماً. إذن: في العفو سَعة ومخرج من هذا الحرج ومن هذا التضييق. لذلك يُحكى أنه كان في إيطاليا رجل مُرابٍ أقرض شخصاً لأجَل، لكن اشترط عليه إذا لم يُؤدّ في الموعد المحدّد بينهما أنْ يقطع رطلاً من لحمه مقابل هذا الدَّيْن، فلما جاء الموعد ولم يدفع المدين ما عليه رفع الدائنُ أمره إلى القاضي، فأقره القاضي على شرطه وقال له من حقك أنْ تأخذ رطلاً من لحمه لكن تذكَّر إنْ زاد أخذنا الزيادة من لحمك أنت، وإنْ نقص أكملناه من لحمك أنت، فلم يملك المرابي إلا التراجع عن شرطه. لذلك يقول تعالى: { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ } [الشورى: 40] وكأن الانتقام لا بدَّ وأنْ يجر صاحبه إلى منطقة الظلم. وعن الإمام علي رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كان يومُ القيامة نادى مُنادٍ يقول: مَنْ كان أجره على الله فليقُم للجنة، فلم يرد أحد، فقال: من كان أجره على الله فليقم للجنة - يعني بغير حساب - فقالوا: ومَنْ الذي أجره على الله؟ قال: العافي عَمَّن أساء إليه ". " ورُوي أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذات يوم بين أصحابه فضحك فسأله عمر رضي الله عنه: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: رأيتُ ربي يفصل في خصومة بين اثنين. فقال أحدهما: ربّ إن هذا أساء إليَّ فخُذْ من حسناته وأعطني بقدر إساءته، فقال له: ليس له حسناتٌ، لكن انظر، فنظر فإذا بقصور وأشياء عجيبة، فقال: لمَنْ هذه يا ربّ؟ قال: لمن عفا عن أخيه. فقال: عفوت عنه، فقال: فخُذْ بيد أخيك وادخُلا الجنة ". ولك أنْ تتأمل كيف يصلح الخالق الخَلْق بهذه القيم، وما علينا إلا أنْ نُخرجها من المجال النظري إلى التطبيق والعمل. والسيئة في قوله تعالى: { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا.. } [الشورى: 40] يعني: عمل فيه إساءة لك بقول أو فعل، وليست سيئة الذنوب والمعاصي في حَقِّ الله تعالى.