الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ ٱلرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ }

معنى { فَيَظْلَلْنَ.. } [الشورى: 33] أي السفن { رَوَاكِدَ.. } [الشورى: 33] ثوابت ساكنة لا تتحرك، قد يُحرِّكها الموج في مكانها لكنها ثابتة لا تسير { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ.. } [الشورى: 33] صبار فعَّال وهذه صيغة مبالغة من صابر لأن جريان السفن يحتاج إلى مجهود وإلى مشقة، فلا بدَّ من الصبر الطويل. وكذلك { شَكُورٍ } [الشورى: 33] على وزن فعُول، وهي أيضاً صيغة مبالغة من شاكر، فجريان السفن من آيات الله التي تستوجب شكره عليها. ثم إن هذه الآية جاءتْ بعد قوله تعالىوَمَآ أَصَـٰبَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ.. } [الشورى: 30] فالمصائب أيضاً تحتاج إلى الصبَّار الشكور لأن المصيبة حين تنزل بالمرء لا تصيب كلَّ الأعضاء ولا تأتي عليه كله، فالله يصيبك في شيء ويعافيك في أشياء، فالمصاب يحتاج إلى صبر والمعافى يحتاج إلى شكر. لذلك رُوِي أن سيدنا عبد الله بن جعفر لما ذهب إلى الشام جُرحَتْ رِجْله وهو في الطريق، ولم يجد مَنْ يعالجه لطول المسافة، فقاحتْ وحدث بها تلوث وأصابتها الغرغرينة، فلما بلغ دمشق ونزل في ضيافة الخليفة أتوا له بالأطباء. فقرروا بترها والتمسوا له مُرقَّد وهو مثل البنج الآن كي لا يُحس بالألم، لكنه رفض ذلك وقال: والله ما أحبُّ أنْ أغفل عن ربي طرفة عين، وفعلاً قطعوا رِجْله دون تحذير، لأن الذي يتمتع بهذه المعية ويشعر بهذا الشعور حقيقٌ ألاَّ يشعر بألم وهو في معية الله. هذه المعية التي احتمى بها سيدنا رسول الله وصاحبه في الغار حين قال له: لا تحزن إن الله معنا، أبو بكر يقول: يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فيقول له صلى الله عليه وسلم: " يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ " ذلك لأنهما في معية الله، والله لا تدركه الأبصار، وكذلك من كان في معية الله منحه الله شيئاً من هذه الصفة. فلما قال سيدنا عبد الله بن جعفر: ما أحبُّ أن أغفل عن ربي طرفة عين قطعوا رِجْله وهو في هذه الحالة فلم يشعر بألمها، فلما أرادوا أنْ يدفنوها أمسك بها وقال: اللهم إنْ كنتَ ابتليتَ في عضو فقد عافيتَ أعضاء. إذن: هذا مثال للعبد الصبار الشكور، صبار على المصيبة شكور على النعمة. وفي قوله سبحانه: { إِن يَشَأْ يُسْكِنِ ٱلرِّيحَ.. } [الشورى: 33] لون آخر من الإعجاز القرآني، لأن السفينة قديماً كانت لا تسير إلا بالهواء، فكيف وهي الآن تسير بقوة الوقود أو بالكهرباء ولا تحتاج إلى الريح، فهل يعني استغناء السفن عن الريح أن الآية لم يَعُدْ لها مجال الآن؟ قالوا: لا بل هي خالدة باقية لها معنى يُعتبر إلى قيام الساعة، لأن من معاني كلمة الريح أي القوة أياً كانت.

السابقالتالي
2