الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ تَرَى ٱلظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ ٱلْجَنَّاتِ لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ }

كلمة { تَرَى.. } [الشورى: 22] تدل على كل ما يتأتى منه الرؤيا { مُشْفِقِينَ.. } [الشورى: 22] خائفين مرعوبين { مِمَّا كَسَبُواْ.. } [الشورى: 22] مما فعلوا من السيئات، قلنا: إن الفعل كسب يكسب من الزيادة على رأس المال أي الربح، وأنها دائماً تأتي في كسْب الخير، أما اكتسب فهي على وزن افتعل فيها افتعال ومحاولة وتأتي في الشر، لكن هنا استخدم كسب للسيئات. وكما في قوله تعالى:بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ.. } [البقرة: 81] قالوا: استخدم كسب هنا لأن السيئة أصبحتْ عنده عادةً وأمراً طبيعياً يشبه فعل الخير عند أهل الخير، فهو يفعل السيئة فلا تتعبه لأنه أَلِفها. قوله: { مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ.. } [الشورى: 22] تصوير لموقفهم يوم القيامة، لأنهم في الدنيا ما خافوا وما عملوا لهذا اليوم حساباً { وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ.. } [الشورى: 22] يعني: لا محالة في ذلك لأنه وَعْد الله وحكمه الذي أخبر به. أو خائفين وهم ما يزالون في سعة الدنيا، وفي هذا دليل على وجود الضمير والنفس اللوامة في الإنسان، فهو يعرف السيئة ويعرف جُرْمه، ويعرف أنه محاسب عليه، لذلك يخاف منه ويؤنبه ضميره. وفي المقابل { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ ٱلْجَنَّاتِ لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ } [الشورى: 22] هذا إخبار من الله تعالى وهو حق، فعاقبة الإيمان والعمل الصالح روضات الجنات يعني ملاذها وأطيب أماكنها يجدونها يوم القيامة، ويجدونها حتى في الدنيا بالتخيل لها والشوق إليها. فالشهيد الذي يجود بنفسه في سبيل الله لم يُقدم على ذلك إلا لثقته في هذا النعيم، وأنه إذا قُتِل في سبيل الله سيذهب إلى خير من هذه الحياة. وقد ذكرنا " قصة الصحابي الذي سمع من رسول الله جزاء الشهداء، فقال: يا رسول الله أليس بيني وبين الجنة إلا أنْ أقاتل هؤلاء فأُقتل؟ قال صلى الله عليه وسلم: بلى. فألقى الصحابي تمرة كانت في فمه وبادر إلى الشهادة، ولم ينتظر حتى يمضغ التمرة التي كانت في فمه " ، لماذا؟ لأنه واثق من صدق الجزاء في قوله تعالى:وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [آل عمران: 169]. نعم الشهداء أحياء، وأحياء عند مَنْ؟ عند ربهم، وهذه قمة الشرف والعز والنعيم، وهي خصوصية لم ينلْها غيرهم، فالشهادة نقلتهم من حياة لحياة، فلا يموتون بعد ذلك، ويُبعثون مع الناس وهم أحياء. وقد عبَّر الشاعر عن هذا المعنى حين قال في سيد الشهداء حمزة ابن عبد المطلب عم رسول الله:
أَحَمْزَةُ عَمّ المصْطفى أنتَ سَيِّدٌ   عَلَى شُهَداء الأرض أجمعِهمْ طُرّا
وحَسْبُكَ مِنْ تلْكَ الشَّهادة عِصْمةٌ   مِنَ الموت في وصْلِ الحياتين بالأُخْرى

السابقالتالي
2 3