الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ لَهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

أولاً: لاحظ هنا أسلوب القصر في { لَهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [الشورى: 12] بتقديم الجار والمجرور، فمقاليد السماوات والأرض له وحده ومِلْكه وحده، ومقصورة عليه سبحانه لا يشاركه فيها أحد. كلمة { مَقَالِيدُ } [الشورى: 12] جمع مقلاد وهو المفتاح لذلك قال تعالى في موضع آخروَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ.. } [الأنعام: 59] فله سبحانه مفاتيح الخير في السماوات وفي الأرض، ومعنى مفاتيح أنها تغلق على شيء نافع ومفيد. والغيب خزينة من هذه الخزائن المغلقة، فحين يعطي الله مفتاحها لأحد ويُطلعه على شيء من الغيب يُجريه على لسانه مكرمة وفضلاً منه تعالى عليه، ولا يعني هذا أنه أصبح عالماً للغيب ويفتح مكتبَ علم الغيب، بل يأخذ حاجته التي أكرمه الله بها ويعطي المفتاح لصاحبهوَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ.. } [الأنعام: 59] فمَنْ يدَّعي علم الغيب لا يعرف كيف يتأدب مع الله. ونحن نستخدم هذه الكلمة مَقَالِيد في لغتنا العامة الآن فنقول: فلان بيده مقاليد الحكم أو مقاليد الأمور في الشركة أو المصنع، يعني: هو المسئول الذي يملك القرار وبيده مفاتيح العمل وأسراره. وقوله تعالى: { يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ.. } [الشورى: 12] أي: هنا بمفتاح ومقلاد من هذه المقاليد هو مفتاح الرزق، يبسطه سبحانه لمن يشاء ويُوسعه ويُيسِّره، وأيضاً يقبضه ويُضيقه على مَنْ يشاء من عباده، والمقاليد على الأرزاق تشرح لنا قوله تعالى:وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [الحجر: 21] يعني: بسط الرزق أو يقبضه بعلم وبقدر وبحكمة. لا تظن أن الأرزاق توزع هكذا كما اتفق لا، لأن الموزِّع لها عليم بخَلْقه وخبير بأسرارهم وخفاياهم، حكيم يضع الشيء في موضعه، لذلك لا تتعجب حينما ترى الغني المترف الذي يملك الملايين وجاره لا يجد قوت يومه، لا تتعجب حينما ترى مثلاً أصحاب المحلات التجارية، هذا يبيع ويشتري وعنده رزق وفير وبجواره محل مثله لا يدخله أحد، لا تتعجب لأن وراء هذا وذاك حكمة عرفها مَنْ عرفها وجهلها مَنْ جهلها. ويكفي أنْ تقرأ:وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [الحجر: 21] وهنا ذيَّل الآية بقوله: { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الشورى: 12] يعلم مَنْ يعطي ومن يمنع، ولذلك يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجلي لنا هذه الحِكَم، يقول: قال الله عز وجل في الحديث القدسي: " إن من عبادي مَنْ إذا أغنيته لَفسد حاله، ومنهم مَنْ إذا أفقرتُه لصلح حاله ". والحق سبحانه يقول:كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [العلق: 6-7]. ففَقْر الفقير لحكمة، والغِنَى عند الغني لحكمة، فلا تعترض وتأمل فربما كان المال عندك أداة سطو وبطش وتعدٍّ وطغيان، وربما دعاك المال إلى العصيان أو ولَّد عندك نزوعاً للشر، فحين يمنعك الله هذه الأداة فإنما منعك ليرحمك بالفقر فالغِنَى لا يناسبك، وصلاحك في الفقر، وفي شيء من الرضا بما قَسَمه الله لك، وألاَّ تمدّ عينيك إلى مَنْ هو أعلى منك في متاع الدنيا وزخرفها.

السابقالتالي
2 3