الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ }

قوله تعالى: { أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ } [فصلت: 51] يعني: انصرف عن المنعِم سبحانه، لأنه أخذ حاجته ونال بُغْيته، وهذه الصفة كثيراً ما نجدها في البشر، فالرجل يلجأ إليك في قضية من القضايا أو مشكلة من المشكلات ويقف ببابك صباحاً ومساءً، فإذا قضيتَ حاجته ربما ينسى حتى أنْ يقول لك شكراً. ولقد أجاد الشاعر الذي صوَّر لنا هذه المسألة، فقال:
يَسيرُ ذَوُو الحَاجَاتِ خَلْفَكَ خُشَّعاً   فَإِنْ أدْركُوهَا خَلَّفُوكَ وَهَرْولُوا
وأَفَضلُهم مَنْ إنْ ذُكِرْتَ بِسَيِّىءٍ   توقَّفْ لاَ يَنْفِي وَلاَ يَتقوَّلُ
فَلا تَدعِ المعروف مهْما تنكَّروا   فَإنَّ ثَوابَ الله أرْضَى وأَجْزَلُ
وتذكَّر دائماً أن الذين ينكرون يدك عليهم هم أربح الناس لك، لأن الذي سيتولى الردَّ على جميلك هو الله عز وجل، وعطاء الله على قَدْر الله، وعطاء الناس على قَدْر الناس. لذلك رأينا سيدنا نوحاً عليه السلام يقول لقومه:يٰقَوْمِ لاۤ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً } [هود: 51] المعنى: أن العمل الذي أقوم به كان ينبغي أن تعطوني عليه أجراً، إنما أنا لا أريد أجري منكم، بل من ربي، فهو القادر على أن يعطيني الجزاء، ويُقدِّر علمي. ونلحظ في سياق هذه الآية التدرج في عملية الإعراض { أَعْرَضَ } يعني: انصرف بوجهه، ثم { وَنَأَى بِجَانِبِهِ } يعني استدار بظهره، إذن: أعرض بوجهه ثم بجنبه ثم بظهره، وهذا الترتيب تجده نفسه في قوله تعالى:وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } [التوبة: 34-35]. قالوا: نزلت فيمَنْ ردَّ السائل المحتاج فأعرض عنه أولاً بوجهه، ثم بجنبه، ثم بظهره، فكأن الجزاء من جنس العمل، وبقدر الكنز يكون الكَيّ، والعياذ بالله. وقوله تعالى: { وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ } [فصلت: 51] مسَّه مجرد مَسٍّ { فَذُو دُعَآءٍ } [فصلت: 51] يعني هو صاحب دعاء { عَرِيضٍ } مستمر ونلحظ أنه لم يقُل دعاء طويل، الشيء له طول وله عرض، والطول أكبر من العرض، لكن القرآن يستخدم العرض للدلالة على كِبَر الشيء كما في قوله تعالى في وصف الجنة:عَرْضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ } [آل عمران: 133] فإذا كان عَرْضها السماوات والأرض وهي أوسع ما نراه، فما بالك بطولها؟