الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ مَّنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لِّلْعَبِيدِ }

الحق سبحانه يقرر هنا حقيقة واقعية، يريد سبحانه للعباد أن يؤمنوا بها، حتى يرسخ في أذهانهم أن كلاً منهم يعمل لصالح نفسه، وأن إيمان المؤمنين لا يعود على الله تعالى بشيء، ولا يزيده سبحانه صفة لم تكُنْ له. كذلك لا تضره معصية العاصين، ولا جحد الجاحدين، ولا إنكار المنكرين، لأنه سبحانه مُستوْفٍ كلَّ صفات الجلال والجمال والكمال قبل أنْ يخلق هذا الخَلْق، فالله تعالى ليس في حاجة أبداً إلى طاعة الطائعين ولا إيمان المؤمنين، بل العباد هم المستفيدون من أعمالهم الصالحة. وما أمور التكاليف الشرعية إلا حرصاً من الله تعالى على خَلْقه، ورحمةً من الصانع بصَنْعته، فكُلُّ صانع يريد لصنعته الصلاح، ويرْبأ بها عن الفساد وأسباب الهلكة. وتذكرون الحديث القُدسيّ: " يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، وشاهدكم وغائبكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في مُلكي شيئاً، ولو أنَّ أوَّلكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، وشاهدكم وغائبكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من مُلْكي إلا كما ينقص المخْيَط إذا أُدخِلَ البحر ذلك أني جواد ماجد، عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردتُه أنْ أقول له: كُنْ فيكون ". إذن: أنتم أحرار، يؤمن مَنْ يؤمن، ويكفر مَنْ يكفر، فكلٌّ مُجازَى بعمله { مَّنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ } [فصلت: 46] هو المستفيد، وليس لي من عمله شيء { وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } [فصلت: 46] أي: على نفسه تحسب إساءته، هذه قضية يقررها ربك عز وجل، ولك أن تختار لنفسك، وأنْ تُوردها المورد الذي يُسعدها لا الذي يُشقيها. ومن العجيب أن الإنسان بعد أنْ عرف هذه الحقيقة يورد نفسه موارد الهلاك، لذلك وصفه الحق سبحانه بأنه ظلوم وجهول. والحق سبحانه حين ينذرنا بالعقوبة، وحين يشددها ليس من حظه أنْ يُوقع هذه العقوبة بالعباد، إنما أراد سبحانه أنْ يصرفنا نحن عن أسبابها ويُخوِّفنا منها حتى لا نقع فيها، الله تعالى مُنزَّه عن الظلم { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لِّلْعَبِيدِ } [فصلت: 46]. إنه يُخوِّفك حمايةً لك، بالله حين يقول لنا: مَنْ قتل يُقتل، أيريد أنْ يقتل الناس، أم يريد أنْ يحقن الدماء ويحفظها؟ ومَنْ يقدم على القتل وهو يعرف أن مَنْ قتل يُقتل؟ لذلك تجد القرآن في مسألة القوة العسكرية يقول:وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ.. } [الأنفال: 60]. العجيب أن أعداء الإسلام يأخذون من هذه الآية دليلاً على أن الإسلام يؤيد الإرهاب لأنه ذكر كلمة تُرْهِبُونَ وهذا فَهْم خاطئ لأسلوب القرآن، لأن معنى إعداد القوة التي ترهب أنني لا أريد المعركة ولا أريد المواجهة، فحين يعرف عدوى أنِّي مستعد يخاف ولا يُقدِم على القتال.

السابقالتالي
2