الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ }

كأن الحق سبحانه يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد أنت سيد الرسل، والرسل أُوذُوا، فلو كان الإيذاء على قَدْر المنزلة لكان إيذاء قومك لك أضعاف إيذاء الرسل السابقين، وما يُقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك، فلسْتَ بدعاً في الرسل. والذي قيل للرُّسُل من قبلك:وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } [الصافات: 171-173] وأنت يا محمد واحد منهم، فأبشر بنصر الله لك ولجندك ولمن تابعك. ويصح أيضاً أنْ يكون المعنى { مَّا يُقَالُ لَكَ } [فصلت: 43] أي: من أعدائك والمعاندين لك { إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } [فصلت: 43] أي: من أعدائهم والمعاندين لهم. يعني: لا تحزن فهذه سنة الله في أهل الدعوات وحَمَلة الرسالات، وأنت واحد منهم فلا تُتعِبْ نفسك، ولا تُحمِّل نفسك في سبيل دعوتك ما لا تطيق.فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [غافر: 77]. ذلك لأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذاق حلاوة الإيمان بالله أحبه الناس جميعاً، وكانت عنده غيرة على ربه، يريد أن يسلم الناسُ جميعاً لا يفلت منهم أحد، ولا يشذ منهم عن الإيمان بالله أحد، لذلك كان يجهد نفسه وكثيراً ما عاتبه ربه على ذلك عتاب المحبِّ لحبيبهفَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً } [الكهف: 6]. وبيَّن له صلى الله عليه وسلموَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } [العنكبوت: 18]. وكثيراً ما نرى القرآن الكريم يقصُّ على سيدنا رسول الله قصص الأنبياء السابقين تسليةً لرسول الله وتخفيفاً عنه، فسيدنا نوح - عليه السلام - عمّر في قومه يدعوهم إلى الله ألفَ سنة إلا خمسين عاماً، ومع ذلك ما آمن معه إلا قليل. وحكى القرآن عنه قوله:قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ إِلاَّ فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوۤاْ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِمْ وَٱسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ ٱسْتِكْبَاراً } [نوح: 5-7]. قوله:جَعَلُوۤاْ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِمْ } [نوح: 7] مبالغة في الإعراض وسَدِّ الآذان عن السماع، فالذي يُوضع في الأذن الأنملة لا الأصبع، وأكثر من ذلك { وَٱسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ } [نوح: 7] يعني: غطُّوا بها وجوههم، وبذلك سَدُّوا كل منافذ الإدراك والتلقي كأنهم لا يريدون سماعه ولا حتى رؤيته. إذن: اصبر يا محمد فلستَ جديداً في الإيذاء ولا في الإعراض والعناد. وقوله سبحانه: { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } [فصلت: 43] تأمل هذا الكلام الذي نُسميِّه كلام سياسي ويسميه العلماء ترغيب وترهيب، فالحق سبحانه وتعالى يراعي أحوال هؤلاء المعاندين لرسوله صلى الله عليه وسلم، ويخاطبهم بما يناسب كلَّ الاحتمالات، فمَنْ عاد منهم إلى الحق وإلى الصراط المستقيم فبابُ التوبة مفتوح والله غفور رحيم، ومَنْ أصرَّ وتمادى في عناده فالله ذو عقاب أليم.

السابقالتالي
2