الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلذِّكْرِ لَمَّا جَآءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ } * { لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ }

الكفر هنا بمعنى الستر أي: ستر الإيمان بواجب الوجود، لأن الستر يقتضي مستوراً، فما هو المستور في عملية الكفر؟ الكفر يستر مقابله، يستر الإيمان، فكأن الإيمان أمرٌ فِطْري وهو الأصل والكفر طارئ عليه ليستره، وكأن الكفرَ بهذا المعنى جُنْد من جنود الإيمان ودليلٌ عليه. وكلمة { بِٱلذِّكْرِ.. } [فصلت: 41] هنا بمعنى القرآن الذي نزل على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالىإِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9] ويُطلق الذكر أيضاً على الكتب السابقة على القرآن:فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [النحل: 43]. وقال تعالى:وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ ٱلْفُرْقَانَ وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ } [الأنبياء: 48] ويُطلق الذكر ويُراد به الصِّيت والمنزلة.وَإِنَّهُ } [الزخرف: 44] أي: القرآنلَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ.. } [الزخرف: 44] وقال سبحانه:لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ.. } [الأنبياء: 10]. ويُطلق الذكر على تسبيح الله:إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فِي ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلاَةِ.. } [المائدة: 91]. ويُطلق الذكر على ذكر الله بالطاعة، وذكر الله للعبد بالفيوضات والمغفرة:فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ.. } [البقرة: 152]. وقوله سبحانه: { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ } [فصلت: 41] كلمة عزيز لها معَانٍ منها العزيز أي: النادر الثمين، والعزيز: الغالب الذي لا يُغلب. ومنه قوله تعالى:وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ } [آل عمران: 4] فالقرآن غالبٌ يعلو ولا يُعْلَى عليه، يأخذ بالقلوب ويستولي عليها، بدليل قولهم:لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [فصلت: 26]. ذلك لأن الذي يسمع كلام القرآن، لا بُدَّ أنْ ينبهر به شريطة أنْ يستقبله بقلب صَافٍ ووجدان غير جامد، فإنْ صادف حُسْنَ الاستقبال كان له هذا الأثر الذي رأيناه في قصة إسلام سيدنا عمر رضي الله عنه، وكان من ألدِّ خصوم الإسلام إلى اللحظة التي عَلِم فيها بإسلام أخته وزوجها، فجاء إليها ولطمها حتى سَالَ الدَّمُ من وجهها، فكان هذا الدمُ سبباً في رِقَّة قلبه رِقَّةً غلبتْ جهله، فلما سمع القرآنَ منها سمعه هذه المرة بقلب ومواجيد وعاطفة صافية فتأثر به وأسلم. إذن: فالقرآن عزيز غالب، لذلك ورد في الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، فإن المُنبتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى ". وقال: " ولن يُشَادَّ الدِّين أحدٌ إلا غَلَبه ". فإذا أردتَ أنْ تختار بين أمرين أو توازن بينهما ينبغي أن تكون خاليَ الذِّهْن تماماً وتُخرِج ما في قلبك من هَوىً لأيِّهما، ثم تُوازن بينهما، فما ارتحتَ له فامْضِ فيه، لذلك قال تعالى:مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ.. } [الأحزاب: 4]. إذن: هو قلب واحد، إنْ عُمر بالشر كيف يستقبل الخير؟ لابد أنْ تُخرِج الشر أولاً لأن الشر سيطرد الخير.

السابقالتالي
2 3 4